الحوار بين الناس و الحضارات و الأفراد، هو ما سمَّاه القرآن التعارف في قوله تعالى:
﴿ وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾ [الحجرات: 13]، بما يقتضيه التعارف من تبادل الخبرات و المعارف، و تحقيقِ التفاهم و الود و التعاون... هذا الحوار ضرورة من ضرورات الحياة الإنسانية و بقاء الحضارات؛ و لهذا كانت فترات السلام هي الأصل في بناء الحضارات و استمرارها، أما الحرب فشذوذ يؤدي إلى إزهاق الأرواح و تبديد الإمكانات، و ما يُنفَق عليها قد يُسعِد الجنس البشري كلَّه قرونًا، كما نرى في حجم الإنفاق العسكري في العصر الحديث.
و من هنا يكتسب الحوار أهميتَه البالغة من كون الوجود الاجتماعيِّ الإنساني لا يتحقَّق إلا بوجود (الآخر المختلف)، الذي يمكن أن تتعرف عليه، و تتبادل معه الخبراتِ و صورَ التعاون؛ و بالتالي تستطيعان معًا - بالالتقاء و الحوار - إنتاجَ المعرفة، و توليد الأفكار الجديدة؛ حتى تتضح المعاني، و تغنى المفاهيم؛ لأن الحوار في مستوياته العليا إنما هو نوع من إنتاج المعرفة الراقية، التي تتحاور مع كافة ضروب المعرفة الإنسانية.
و بالتزام الحوار، و تواصُلِه بين الأطراف المختلفة؛ تتقلص شُقَّةُ الخلاف شيئًا فشيئًا، و بفضله تتسع قدرات العقل، و تتعمق مداركه، و في أجواء الحوار ينمو العقل و يقوى؛ بما يتهيأ له من تنوُّع في الفكر، و اختلاف في المنهج[1].
فإذا أغلَقَ الإنسان باب الحوار، فقد أغلق على عقله الأَوردةَ التي تحمل إليه المعرفةَ الناضجة التي قبلتها العقول، و محَّصتها النظرات الثاقبة، و الآراء السديدة.
و يؤكد أحد الباحثين النابهين على أن الحوار - في حقيقة أمره - انعكاس لمستوى تطوُّر وعي الفرد و الجماعة، بينما يمثل الانطواء على الذات و التقوقع داخلها مرحلةَ الطفولة و البُدائيَّة.
فكلما سما الإنسان، و ترفَّع عن أنانيته، أوجد في ذاته مكانًا أرحب للآخر، و أدرك أن الحقيقية ليست في الأنا وحدها؛ بل هي تتكامل مع الآخر، و الحوارُ معه فرصة ثمينة لاكتشاف الأنا، و إضاءة ساطعة على الثغرات و النواقص التي لا تخلو منها شخصية إنسانية[2].
و قد سجَّل التاريخ الإنسانيُّ للحضارة الإسلامية أنها كانت هي المبادرةَ باقتحام فضاء الآخر، و الدخول معه مبكرًا في حوار صريح و جريء، تناوَلَ المقدَّسَ و الممنوع، و طُرِحت على بساط البحث، و التحليل، و النقاش العلميِّ الجاد - كلُّ المنظومات المعرفية التي طالتها أيدي علمائها، دون خوف أو وجَلٍ[3].
لكن موقف أوربا كان على العكس من ذلك...
فمع تشويهها الدائم للإسلام، أضافت - إلى هذا التشويه الظالم - عنصرَ الاستعلاء القومي و الحضاري، لاسيما عقب اكتشافها لأمريكا، و رأس الرجال الصالح (مستفيدةً من خبرة المسلمين البحرية)، و ازدهارها الاقتصادي، و اكتشافاتها العلمية؛ و من ثم اعتبرت أوربا نفسَها صاحبة مشروع كوني، تمثِّل فيه أوروبا (المركز)، و باقي العالم لا يعدو أن يكون مجموعة أطراف، مكونة من أنماط حياتية و اقتصادية غير واعية، و متعثرة، و ساكنة، و مفتقرة لقوة الاستكشاف، و التحليل، و الاستنتاج[4]؛ و كأنها - في رأيها - لا تستحق الحياة، أو كأنها لم يكن لها رصيد حضاري، ربما يفوق الحضارةَ الأوربية في بعض معطياته المعنوية و الفنية بخاصة.. و المادية بالنسبة لعصرها ثانية.
و بهذه الروح الاستعلائية العنصرية، عامَلَ الغرب كلَّ الحضارات القديمة التي سيطر على شعوبها، و جنَّد كلَّ قواه لتحطيمها، و تشويهها، و إحلال النموذج الغربي محلها؛ منطلقًا من رؤية تدميرية استعمارية تقوم على أن كل الحضارات الأخرى لا تستطيع أن تلتحق بالغرب وحدها في ميدان التقدم، و بما أنها لا تستطيع أن تفعل ذلك وحدها؛ فإنه ينبغي على الغرب أن يساعدها؛ أي: أن يستعمرها[5].
و هو منطق عجيب!!
و نظن أنه - بهذا الفكر الاستعلائي العنصري - لا يمكن أن يكون هناك مكان للحوار؛ من وجهة نظر ساسة أوروبا و قادتها و نخبها المثقفة المؤمنة بهذا الفكر العنصري الماسوني.. اللهم إلا حوار السادة مع العبيد!!