- القلب الذي يحمل الرأفة لأمته ما زال يتسع للمزيد من الصبر، و النفس التي ارتقت إلى أعلى مقامات الرقيّ والثبات ما زالت تبث الدفْ حولها، و اليد التي امتدت منذ أول لحظات الوحي بالرسالة الطيبة العظيمة، مازالت تمتد بالعطاء و التوضيح و الإشفاق على الأهل و العشيرة، و الرّوح التي أخلدت بسكينة و يقين و استسلام لربها و امتثلت لتكليفه بنشر الخير المنزّل بالرحمة والغيث و المواساة و الكرامة لكل أطياف البشرية، ما زالت هذه الرّوح الندية تتوق إلى بث الهدى و النور على كافة أرجاء البسيطة ، و ذلك كلّه برقيّ معانية و جميل عطاءه ،وجود نداه، و لمسة حنوّه و انبثاقة دفئه و نوره، يتمثّل في شخص رسول الله صلى الله عليه و سلم، و قد أرسله الربّ الرّحيم بالرسالة الراشدة الرشيدة، رحمة للعالمين و هدى للبشرية التي ضلّت الطريق، و أضاعت القيم الإنسانية، و تلبست برداء الضلالة و القسوة و الفرعنة و الجهل و الظلم، حتى اصبحت الأرض مكانا بغيضا لكل من سيم الهوان و استعبد و استرق و سلب كرامته و امتهنت انسانيته ، فأشرق حينها النور البهي و الكوكب الدرّي، و أطلت شمس اللطف الرباني ساكبة شعاعها النيّر في كل قلب متفتح لنور الله.
و لكنّ القلب الذي حمل كلّ هذا الخير للأمة، تعتريه حالة المشاعر الانسانية، فما صاحبه صلى الله عليه و سلّم إلّا بشر مثل سائر البشر، و لكنّه فضّل بالرسالة و النبوة و الكمال و أتمّ ربّه عليه نعمة الخلق و الخلق، تعتريه حالة الحزن و الألم و الفقد، و تؤذيه حالة التكذيب و العداءالتي يواجهه بها أهل الباطل، و هم يصدون عنه صدودا، فيجتمع عليه ألم فقد زوجته الداعمة خديجة بنت خويلد، و عمّه العطوف المشفق أبا طالب فلا يجد إلا الصبر الجميل، و التجلّد النبيل، و الشعور بالقرب الربّاني ، فيبثّ شكواه و حزنه إلى الله، و هو يرجوه أن يغفر لقومه بأنهم لا يعلمون.
و تمضي الأيام الحزينة قدما و الهمّة النبويّة المتوجهة لربّها جل و علا في أوج انطلاقتها و النبي صلى الله عليه و سلم يعرض دعوته على قبائل العرب، على أمل أن يكون فيها زعيم رشيد لا يرى في الاسلام تهديدا لنفوذه، أو حدّا لعنجهيته، و لكن القلوب الصماء و العيون التي تنظر و لا ترى و القلوب التي سكنها الصدأ عقودا ،لا تلين لكلمات الله، وحدها تلك النفوس الرقيقة و القلوب الكليمة و الارواح الطامحة للحرية، آمنت بآيات الله، وحدها تلك الايدي المكبلة بقيود العبيد و تلك الطبقة المحتقرة لفقرها، أو بساطة أصلها، أو قلة نفوذها، سارعت إلى جنة عرضها السماوات و الارض، و لم تخل الفئة المؤمنة المستضعفة من أولئك النبلاء و الأغنياء و الكرماء، أولئك الذين وجدوا في دعوة النبي صلى الله عليه و سلّم و رسالته صدى أفكارهم النقية الرافضة لواقع الجاهلية المقيت فصدّقوا به و نصروه و واسوه قدر استطاعتهم، دون تردد و لا تقصير.
و الحبيب المصطفى صلى الله عليه و سلم، يرهقه طول المسير، و شعور الحزن و عنت الجبابرة و هو صابر مصابر مرابط في أم القرى مجاور للبيت الحرام ،
و يمتن الربّ الرحيم على نبيه الكريم، و تكون رحلة الاسراء و المعراج، و يحمل المصطفى صلى الله عليه و سلم، على ظهر البراق ساريا في ليلة أشرق فيها البدر بهاء، و هو يرقب الرحلة الشريفة، تمد جسر البركة و التلاحم و التشريف الرباني، كخيط من ضياء و توحيد و ذكر و صلاة و عبادة، ما بين المسجد الحرام و المسجد الأقصى، ليظل هذا الجسر ممتدا إلى أن يرث الله الأرض و من عليها، سيظل المسجد الحرام، بيت الله و مكان الحج الركن الخامس من أركان الإسلام، و سيظل الأقصى المبارك، موطن الجهاد و مكان ذروة سنام الإسلام، و سيبقى ساحة فداء للطائفة المنصورة المرابطة في سبيل الله لا يضرها من عاداها، سيظل المسجد الحرام قبلة الصلاة و موقع الطواف و بيت الله الحرام و من دخله كان آمنا، و سيظل المسجد الأقصى مسجدا تشد إليه الرّحال، و تسنّ الصلاة فيه، فإن عزّت الصلاة فيه على مسلم فليرسل بزيت يضاء في قناديله
و هناك في الأقصى المبارك، أمّ خير الخلق، حين أهلّ نور الفجر بالرسل الكرام، و هناك كانت رحلة المعراج تمضي للسماء، و يحط ركب المصطفى الميمون في أرجاءها، و يرى من آيات ربّه الكبرى، و يعود إلى أمته بكنز الخيرات، و سرّ البركات، يعود بخمس صلوات مكتوبة مفروضة، من اداها بحقّها كان له أجر خمسين صلاة
و يعطى مالم يعط سواه من الخلق، عليه أفضل صلوات الله و يعود النبي صلى الله عليه و سلّم من رحلته المباركة، مبشّرا بجنة رآها رأي العين، و منذرا نارا وقودها النّاس و الحجارة قد رآها رأي العين، و تسخر العقول الجامحة بفرعنتها من آيات الله، فتخزى في الدنيا و الآخرة، و تزداد القلوب المؤمنة إيمانا و تصديقا، فتفوز برضى ربها في الدنيا و الآخرة، و تتنزّل سورة الإسراء تؤكد بركة هذه الرحلة النبوية الطيبة{سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنّه هو السميع العليم}
و تستمر السورة الكريمة آياتها تترى، تحذّر اليهود وتنذرهم الخزي و الندامة، و تبشرهم بالقتل و التدمير و الفناء، فما كان لأمة حاقدة على البشرية محاربة لله، قاتلة لأنبياءه، صناعتها الإفساد في الأرض، و العياث فيها علوا وخبثا، و نهجها قتل المؤمنين و سلب أوطانهم و هدم مساجدهم، ما كان لها ان تبقى في علوّها دون حساب ، بل يقرّر ربنا جل وعلا، و في سورة الإسراء أنها ستباد و تدمّر،و ليسؤ وجهها أولئك الذين استضعفتهم هذه الشرذمة من الخلق، سيسوء وجهها أتباع رسول الله صلى الله عليه و سلم، محمد صاحب الإسراء و المعراج، صاحب لواء الإمامة بالانبياء في رحاب المسجد الأقصى المبارك
اللهم أرزقنا صلاة في المسجد الأقصى وأنلنا شرف الشهادة على ثراه ابتغاء وجهك الكريم