في داخل كل واحد منا سلسلة لا تنتهي من المعارك الصامتة بين رغباته و الظروف التي تضغط عليه من جهة و بين إرادته و واجباته، و ما يشعر أنه الصواب من جهة أخرى . و قد أثبت الإنسان في مواقف لا تُحصى أنه قادر على التأبي و التمنُّع على المغريات و المفاتن و الظروف الصعبة ، لكن ذلك يظل في حاجة إلى شيئين اثنين : وعي جيد بما ينبغي عمله و وقود روحي للقيام به . و بما أن معظم الناس معوزون في أحد هذين الشيئين, أو فيهما معاً, فقد صار من المألوف خضوع الناس للظروف التي يجدون أنفسهم فيها, و على امتداد التاريخ كانت الظروف الصعبة المتمثلة في الضعف و الفقر و المرض و التهميش الاجتماعي... تمارس درجة عالية من العنف ضد الإنسان في كل مكان من الأرض. و ليس هذا فحسب، بل إن الظروف المحبوبة من الغنى و القوة و الصحة و النفوذ و النسب الرفيع و الجاه و الجمال، ظلت هي الأخرى تدفع الناس في اتجاهات سيئة، بل مدمرة. و قد يستغرب القارئ الكريم من تقرير هذا المعنى، حيث إن الناس يشعرون بالكثير من السرور و الامتنان حين يمتلكون أسباب القوة و الرفاهية، بل إنهم يبذلون الكثير من الجهد و الوقت في سبيل الحصول على ذلك، و لا لوم عليهم في هذا. لكن علينا أيضاً أن نقول: إن الأشياء المحيطة بنا لا تكون جيدة بسبب خصائصها الذاتية فحسب، و إنما بمدى قدرتها على دفعنا في الاتجاه الصحيح و مدى ملاءمتها لتركيبنا الروحي و العقلي و الاجتماعي. و قد نجد هذا المعنى في قوله صلى الله عليه و سلم : ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) حيث نجد التركيز هنا على نوع عميق من الملاءمة بين المال و الإنسان. المؤرخ البريطاني الكبير " أرنولد توينبي " أشار إلى ما سماه " المحيط الذهبي " و هو المحيط الذي يتحدى الناس، و لا يعجزهم، و ذلك لأن المحيط حين يكون صعباً جداً يكسر إرادة الإنسان، و يجعله يتقولب معه، حين يفقد إرادة التغيير، و إرادة الممانعة. و هذا ما نجده لدى معظم الناس الذين يظلون عاطلين عن العمل مدداً طويلة، و أولئك الذين يعيشون في مناطق مكتظة و فقيرة بالخدمات الأساسية : الماء و الكهرباء و الصرف الصحي و المستشفيات.. و إن مدن الصفيح المنتشرة في الكثير من دول العالم تقدم نموذجاً لما نقوله. فأنت ترى في تلك المدن هوانَ الإنسان و تجليات ضعفه و غرائزه في آن واحد حيث المخدرات و الدعارة و الشعور بالخذلان و انسداد الآفاق.. الإنسان أيضاً حين يعيش في بحبوحة من العيش، و حين يكسب الرزق الوفير بسهولة بالغة، فإنه يجد نفسه معرَّضاً لممارسة نوع آخر من عنف الظروف، و هو ما أطلق عليه بعض علماء الحضارة اسم: " خيانة الرخاء". إن الإنسان يحتاج إلى أن يشعر بالتعب و التحدي حتى يمارس الإبداع و حتى ينهض إلى تطوير مهاراته و رفع مستوى كفاءته الشخصية، كما يحتاج إلى الإحساس بشيء من السدود و الموانع التي تعوقه عن العدوان على حقوق الآخرين. و قد قرر القرآن الكريم هذه الحقيقة تقريراً لا لبس فيه حيث قال – جل شأنه- : ( كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) و قال أيضاً: ( و لو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض و لكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير ). إن (فرعون) يقدم نموذجاً لما يمكن أن يفعله الإنسان حين يجد نفسه مستغنياً، و حين يجد نفسه فوق المساءلة و المعارضة, و يتحدث بعض مؤرخي الحضارة عن نموذج كبير لخيانة الرخاء, هو ( إسبانيا) فقد كانت هذه الدولة في القرن الخامس عشر الدولةَ الصناعية الأولى في أوربا، و حين غزت أمريكا الجنوبية في القرنين السادس عشر و السابع عشر عثرت هناك على الكثير من مناجم الذهب. و حين بدأ الأسبان يستمتعون بما استولوا عليه تراجع إحساسهم بالحاجة إلى التطوير و بذل الجهد, و هذا جعل الريادة الصناعية تنتقل إلى دول أوربية أخرى, و صارت ( إسبانيا) فيما بعد في ذيل الأمم الأوربية في المجال الصناعي، و ما زالت. إن الدنيا دار ابتلاء بامتياز، و لهذا فنحن نحتاج إلى الوعي و الإرادة و العزيمة في حالة الرخاء و السعة و المكنة، و نحتاج إليها في حالة الكرب و الشدة و العوز, و صدق الله – تعالى- إذ يقول: ( و نبلوكم بالشر و الخير فتنة و إلينا ترجعون) . يحتاج توفير " الوسط الذهبي " إلى الكثير من القوانين و الكثير من التثقيف و الكثير الكثير من النزاهة و النيات الطيبة. |
http://www.denana.com/main/articles.aspx?article_no=14000&pgtyp=66 |