قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab
الأربعاء, 29 نيسان/أبريل 2015 08:29

الروح وميلاد الحضارة

كتبه  الدكتور عبد الحليم عويس
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 دائمًا يُثبت التاريخ أن الحضارة لا تولد إلا بالروح، و يُثبت -أيضًا- أن الحضارة تزدهر بالعقل، فالروح أولاً و العقل ثانيًا. قد يحدث العكس، فتُولد الحضارة بروح هامدة و عقل متألق.

و هنا يمشي العقل وحده، يمشي مسكينًا عاريًا من مقومات البصيرة الكونية و ما وراء الكونية. إنه عقل لا تدثّره حضارة و لا يتلفّع بأردية الوجدان المضطرم بالحبّ، و لا الضمير الحيّ، و لا الإيمان الحارّ، و لا نبضات القلب الوجل من خشية الله. إنه عقل مسكين يمشي -وحده- عندما يفقد الروح، يمشي بلا قلب فقيه و لا عين بصيرة و لا أذن سامعة.

إنَّ العقل -في غيبة الروح- ليقفز من مرحلة الروح الضرورية للميلاد الكامل الصحيح إلى مرحلة الازدهار.

لكن أي ازدهار يا تُرى؟ إنه الازدهار "المادي" المحصور في الإبداع "الشيئي" الذي أحرزته التراكمات الكمية المعرفية عبر رحلة العقل في التاريخ من المركبة البدائية إلى السيارة إلى الطائرة، من بريد الرسائل إلى البريد الإلكتروني، من الغذاء البسيط إلى الغذاء المركّب و المعلّب، من بيت الطين إلى عمارة الخمسين طابقًا، و من البساطة الداخلية في البيوت إلى بيوت "السوبرلوكس".                       

لقد قدّم العقل ازدهارًا ماديًا و شيئيًا لا ريب فيه. لكنه -مع كل ذلك- لم يستطع أن يقدم "البديل" عن "الروح". و كلما ارتفع منسوب عالم الأشياء، هبط منسوب الروح، و فقد الإنسان كثيرًا من أركان سعادته.

لقد تقدم عالمه الخارجي، أما عالمه الداخلي فهو يتداعى في كل يوم آيلاً للسقوط دون أن تكون هناك تيارات روحية قادرة على إيقاف الانهيار و منع السقوط.

إن كل الوسائل الخارجية تفقد فاعليتها ما دام داخل الإنسان متناقضا، يتآكل روحًا و قلبًا، و يعيش تعاسة لا تنفع في علاجها الماديات الخارجية: {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَ مَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ}[فاطر:2].

لقد أصبح العقل و منجزاته الشيئية و البعيدة عن الروح وثنا يعبد نفسه و يعبد الأشياء.

إنَّ مفتاح سعادة الداخل لا يقوم إلا على تغيير الداخل بوسائل العلاج الداخلية: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]. إن العقل لا يستطيع تقديم العون للقلب إذا كان هذا العقل مريضا. لقد تحول هذا العقل من عابد لله إلى معبود يعبد الأشياء -في الوقت نفسه- و يؤله المادة و الثروة و الترف الذي لا حدود له.

و لقد تضخّم هذا الإنسان الذي يقوده العقل وحده، فظن نفسه صانعًا و ليس مخلوقًا لله. لقد نظر إلى نفسه على أنه وسيلة و غاية، و أن الزمان هو حدوده الزمانية، و لا زمان خارج زمانه، و أن مكانه الدنيوي هو المكان الذي لا مكان غيره. فلا آخرة و لا بعث و لا جنة و لا نار.

في مكة و المدينة عاش الرسول صلى الله عليه و سلم يصنع الإنسان الذي تقوده الروح. ذلك الإنسان الذي جلس بين يدي الرسول عليه السلام في دار الأرقم، و في شعاب مكة، و في المسجد النبوي. لا ليتلقى علما مستقلا بذاته، بل علما ممزوجًا بالروح. لقد جلسوا بين يديه و كأن على رءوسهم الطير، خجلين من توجيه السؤال إليه؛ لأنهم يعيشون طعم الحب و حلاوة الإيمان وألق الروح وارتفاعها صعودًا إلى الأفق الأعلى: حتى لكأنهم -كما ذكروا للرسول- بين يديه كالملائكة الذي لا يعنيهم إلا الرحيق المختوم، والسُلاف النقي، تاركين اللهث الكمي المعرفي العقلي لوقته، آخذين منه ما تحتاج إليه تكاليف دينهم و مقتضيات المنهجية النبوية لحياتهم. إنهم -أبدًا- لم ينسوا قيمة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}[العلق:1]، و لا قيمة {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر:28]؛ لكنهم أدركوا أن القراءة لا بُدَّ أن تكون باسم الله، و العلم لا بُدَّ أن يكون مرتبطا بخشية الله، و آمنوا بأنه لن تتحقق الغاية من الروح و العقل إلا حين تكون "الروح" أولاً و العقل ثانيًا.

و لقد أدركوا أن الخطورة تكمن حين يقف العلم وحده، فلا يحميه سياج الإيمان، يحميه من نفسه و من كبره و من جبروته و طغيانه، و من تدميره حين ينفصل عن الروح، و عن "اسم الله" و عن "خشية الله".

و عندما حانت لحظة إعطاء العقل -مع إفرازاته المادية- حقه، وجّه الرسول إلى ذلك، في غزوة بدر (2 هـ] و جعل فداء الأسير أن يعلِّم بعضَ أبناء المسلمين القراءة و الكتابة. و كان عليه السلام من قبل قد وجه بعض صحابته إلى معرفة لغات بعض البلاد توطئة لإرسالهم (6 هـ) إلى ملوك العالم يدعونهم للإسلام، مدشنا المرحلة العالمية الكبرى للدعوة و الحركة. لكن الروح كانت الوقودَ الأول. لأنها تتجاوز حدود العقل الذي تحكمه قوانين قد تكون كافية في الظروف العادية؛ لكنها غير كافية لإطلاق الدولة و الدعوة عالميًّا.

و السؤال هنا، أيهما، الروح أو العقل هو الذي دفع أبا بكر لإنفاق كل ماله؟

إن الشريعة أو العقل لا يُلزمانه بذلك.

أيهما، الروح أو العقل دفع عمر لإنفاق نصف ماله، و دفع عثمان للإنفاق بسخاء كبير على الدعوة في مراحلها الأساس؟

و أيهما، الروح أو العقل، جعل الأنصار يستقبلون إخوانهم المهاجرين، ليس بما يجودون به، و ليس بما توجبه فريضة الزكاة أو الأعراف العامة، و إنما يستقبلونهم بحب و إيثار يفوق حب الشقيق لشقيقه: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[الحشر:9].

إن كل النوازع البشرية قد سقطت في هذه اللحظات العلوية، لحظات قيادة الروح، لدرجة أن يقول الأنصاري سعد بن الربيع لأخيه المهاجري عبد الرحمن بن عوف: "خذ شطر مالي، و لي زوجتان تخَيّرْ واحدة منهما أطلقها لك ثم تتزوجها".

و لو كان العقل هو القائد الأول هنا لما سمح لهذا السموّ أن تتحقق؛ لأنه محكوم بموازين المصلحة و المواطنة و تبادل المنافع، قبل موازين الحب و الإيمان و الزهد و الإيثار و العشق للدين الجديد.

لقد أدركت فطرة الأنصار النقية أنَّ المهاجرين مروا بمرحلة تمثل درسًا على الأنصار أن يفهموه و يرتفعوا إلى مستواه. فهؤلاء المهاجرون -قد ضحوا- بوطنهم على حبهم له، و ضحوا بدُورهم و أموالهم، حتى إن صهيبًا الرومي يضحي بكل ماله ليتركه المشركون يهاجر بدينه ليلحق بالرسول، فاستطاع الأنصار -بالروح- أن يرتفعوا إلى المستوى النفسي و الوجداني و الإيثاري المطلوب، مؤكدين أن الجماعة الإسلامية في المدينة كيان واحد -أنصارا و مهاجرين- لا تفرقهم عنصريات جنسية و لا عصبيات وطنية ولا صراعات مادية. و من ثم جاءت "المؤاخاة" التي أقامها الرسول بينهم تتويجًا لعلاقة روحية و قلبية و إيمانية لا يستطيع البشر أن يرتقوا إليها.

و هكذا كان دور الروح الذي انبثق منها -و في ظلالها- التطور العقلي، فولّد العلم -بالتالي- ابنًا شرعيًّا للإيمان، و اتجه إلى الخير الإسلامي الإنساني العام، و توّجه القرآن بتلخيص الرسالة المحمدية في هذه الوظيفة الخالدة التي أهملتها الحضارات و الأديان لا سيما الحضارة المادية المعاصرة.

إنها وظيفة جيل الصحابة التي استقوها من وظيفة قدوتهم و إمامهم عليه السلام و التي حددها القرآن في قوله تعالى: {وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].

ليست الروح التي نتعامل معها -في حديثنا هذا- هي فقط الروح التي تحدث عنها ابن سينا في قوله:

هبطتْ إليك من المحلّ الأرفع و رقـاءُ ذات تعـزّز و تمنّـع
محجوبة عـن كلّ مقلة عارف و هي التي سفرت ولـم تتبرقع
وصلت علـى كرهِ إليك و ربما كرهت فراقك و هي ذات تفجع
أنفت و ما أنست فلما واصلت ألفت مجاورة الخـراب البلقع
و أظنّها نسيت عهوداً بالحمى و منازلا بفـراقها لـم تـقنع

 و لا هي -فقط- تلك الروح التي تحدّدت اصطلاحا بأنها: ملكة لطيفة غير مادية يُمدك الله بها لتحتفظ بحياتك، فهي سرّ وجودك و بقائك، و أيضًا يمسكها عنك عندما تنتهي حياتك. قال تعالى: {اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر:42].

إنها الروح التي قد يتوافر لها بعض ذلك. لكنها -كما يتعامل معها القرآن- شيء أقوى و أعم من ذلك بكثير.

لقد خلق الله آدم من روحه: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29]، و أمرنا أن لا نيأس من روح الله: {إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:78].

فنحن نعيش -كما تدلنا الآيات- بإشعاعات الروح. فلقد خلقنا الله -ابتداءً- من روحه التي نفخها في أبينا آدم، ثم نفخها في مريم أم عيسى عليهما السلام، و نفخها في كل إنسان يولد في الأرض. فكلنا من روح الله. و عندما نوضع في امتحانات صعبة، فإن علينا أن نلجأ إلى رَوح الله طلبا للنجاة. و إذا يئسنا من اللجوء إلى رَوح الله التي منها أوجدنا و خلقنا، و بها استقام كياننا، خرجنا من دائرة الإيمان؛ لأنه {لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87].

و لكن في أساليب أخرى يطلق الله "الروح" على رسوله الأعظم (جبريل): {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102].

كما يطلق الله مصطلح الروح على القرآن نفسه، ليتم الله به بناء الإيمان و معمار اليقين في الأرض، و يمنح به المؤمنين نور البصيرة الهادي إلى الصراط المستقيم. و لم يكن محمد عليه السلام قبل هذا القرآن على دراية بأيّ كتاب، و لا بشيء من معاني الإيمان: {وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَ لاَ الإِيمَانُ وَ لَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].

 فالروح مصطلح جامع ذو إشعاعات ربانية تضيء جوانب الحياة، بل و تنشئ الحياة، و تحفظ الحياة بعيدًا عن اليأس، و تعطي للمؤمن طاقة فعالة و إرادة إيجابية تجعله سريع الاستجابة لأوامر الله، قوىّ الإرادة، يملك نفسه و هواه و يطوعهما لأوامر الله و لإشعاعات الروح، و لا تتملكه نفسه أو يتحكم فيه هواه.

و الروح نِعْمَ القائد للعقل حتى لا يعبد نفسه، و نِعْمَ الحامي للعلم حتى لا تودي به سلبياته. و ذلك عندما ينقلب العقل وثنا، و يصبح العلم هدما، و ينهار المعمار البشري من افتراس العقل للإيمان و من عبثية استخدامه العلم و غياب الروح المحددة للفواصل الواضحة بين الحق و الباطل، و عندما يمضي الإنسان شبه أعمى في طريقه إلى الانهيار.

 لقد أقام الرسول صلى الله عليه و سلم دولة الهجرة في المدينة على قاعدة الروح من الإيمان، و مع ذلك أطلق عليها بعض العلماء المسلمين "دولة الفكرة". و قارنوا بينها و بين دولة العقد الاجتماعي التي تخيلها "جان جاك روسو". و الفرق كبير بين الدولتين. فالدولة الإسلامية عقد رباني و إنساني تمتزج فيه روح الوحي مع قوانين الدولة. و صحيح أن الدولة الإسلامية الأولى تضمنت عقدا اجتماعيًّا تمثل في "المؤاخاة" بين المسلمين، و الصحيفة التي تحكم الوشائج و فاعلية القانون بين المسلمين و غير المسلمين من مواطن المدينة.

 لكن لا يجوز لنا أن ننسى أن الدستور الحاكم بهذه الدولة بكل شرائحها "القرآن"، و أن قائدها كان هو رسول الله محمد صلى الله عليه و سلم، و أن العقد الذي ظهر فيها لم يتم كما قام عقد "روسو" لإقامة التوازن بين الحكام و المحكومين بعد أن طغى الحكام. فكانت نظرية العقد الاجتماعي مجرد ردّ فعل بشري، مجردٍ من كل معاني الروح، و كانت أهدافه سياسية و قانونية و مصلحية بحتة. أما مجتمع المدينة فهو مجتمع التكافل الاجتماعي الذي يسمو على القانون. و كان مجتمع الحب و التراحم و العدل بين الجميع. و عندما درس بعضهم نظرية "روح القوانين" (نظرية فصل السلطات) لـ"مونتسكيو"، ظنوا أنها إطار كفيل بإيجاد روح إيجابية فاعلة منطلقة من الروح الموروثة التي صنعتها تجربة الأمة و مسيرتها التاريخية. و هنا نلحظ أن "الروح" قد انبثقت من تجارب تاريخية بكل ما يمكن أن تكون قد حملتها من رواسب و تناقضات / مناقضات؛ و أن هيمنة روح المجتمعات يمكن أن يسيء إلى الوعي الفردي. بينما في دولة الفكرة و العقيدة أو "الأمة الوسط الشهيدة على الناس" تحكم الثوابت الربانية. فثمة التوازن بين روح الفرد و المجتمع، و ثمة الثوابت العليا المتحدة من الروح التي كوّنها الإيمان، إلى جانب التجارب التي يمكن أن تغربَل و تصفّى في ضوء الثوابت و المقاصد الشرعية.

 و ثمة شاهد قوي يستدل به المؤرخون على فعالية الروح الإسلامية في المدينة حين يقارنون بين هذا المشهد نفسه في موقفين مختلفين حين حاولت الولايات المتحدة الأميركية تطبيقه في بداية القرن العشرين.

 ففي المدينة المنورة نزل الوحي متدرجا في تحريم الخمر. فلما نزل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الأَنْصَابُ وَ الأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَ الْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَ عَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:90-91]، سرعان ما استجاب الصحابة المشحونون بالروح الإيمانية فقالوا "انتهينا يا رب"، و ألقوا بكل ما عندهم من الخمور حتى سالت بها طرقات المدينة.

 أما تجربة أميركا في تحريم الخمور في مطلع القرن العشرين حين أنفقت في منعها عدة مليارات من الدولارات و تحركت جيوشها الإعلامية و الطبية لكشف أضرار الخمور، بل و غيّرت الدستور فنصّت على تحريم الخمر. و مع ذلك فشلت فشلاً ساحقا و وقعت مقاومة شعبية كبيرة، و اضطرت أميركا لإعادة إباحتها و إلغاء تحريمها من الدستور. و الفرق بين المشهدين واضح، فهو يتجلى في وجود الروح الإيمانية و الإرادة القوية في مشهد المدينة، و غياب كل ذلك في الموقف الأميركي.

 و قد كنت أشعر بنوع من الهروب عندما يكتفي بعضهم بالمقارنة بين موقف الصحابة المؤمنين كل الإيمان، و موقف الأميركان العلمانيين أو مذبذبي الإيمان؛ و كنت أرى أنه من الضروري المقارنة بين موقف المسلمين أنفسهم في حقبتين تاريخيتين مختلفتين مع أنهم جميعًا كمسلمين يؤمنون بأركان الإيمان الستة و أركان الإسلام الخمسة و يصلون و يحجون و يعتمرون. و مع ذلك فإن مسلمي عصرنا هؤلاء مع إسلامهم الخامد الروح الفاقد الإرادة قد يشربون الدخان و الشيشة بعد الفطور في رمضان، و بعد الخروج من الصلاة في الحرم و المسجد النبوي، مع كل ما عرفوه عن تحريم الدخان، و أضراره الطبية و الاقتصادية على الأفراد و المجتمعات.

 لقد كان الفيلسوف و المهندس الجزائري "مالك بن نبي" رائعا في استفادته من مؤرخنا العظيم عبد الرحمن بن خلدون (808 هـ) حين أبرز ابن خلدون دور النبوّة في صناعة الإنسان المؤمن الإيجابي. فلا حضارة بدون عقيدة، و بدون إنسان فطري بسيط كعمر بن الخطاب، ذلك المؤمن الحق الذي كان ينام تحت شجرة في الطريق و هو أمير المؤمنين. و من هذا الإنسان يأتي دور الازدهار العمراني الذي تنذر مرحلةُ ازدهاره البالغة حدَّ الترف و الدعة في الحياة بالدخول في مرحلة الانهيار.

 فعلى هدي ابن خلدون كتب مالك بن نبي عناصر الحضارة الثلاثة المحقِّقة لشروط النهضة، و هي: الإنسان أولاً، و الزمان ثانيًا، و التراب ثالثًا، و تأتي العقيدة قبل ذلك و معه كجامع مازج لهذا المركّب، حتى تصل به إلى بناء الفرد القادر على الإقلاع الحضاري و صناعة الحضارة.

 إنها الروح أولاً وإنه العقل ثانيًا، و بالروح والعقل معًا ينطلق قطار الحضارة الإسلامية فوق قضبان التاريخ، شريطة أن تكون الروح أولاً. http://islamstory.com/ar/AD

قراءة 1578 مرات آخر تعديل على الخميس, 09 تموز/يوليو 2015 17:12

أضف تعليق


كود امني
تحديث