قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab
الأربعاء, 15 تشرين1/أكتوير 2014 12:17

قرن على الحرب الكبرى الأولى: علاقة الغرب بإلغاء الخلافة الإسلامية 1/2

كتبه  الأستاذ محمد شعبان صوان
قيم الموضوع
(0 أصوات)

’’إن تقسيم الامبراطورية العثمانية و تجزئتها بين الدول كانت قضية أوروبية، و ما لا شك فيه أنها كانت العامل الرئيس في نشوب الحرب العالمية الأولى، كما أنها كانت من أعقد المشكلات التي طرحت على رقعة شطرنج السياسة الأوروبية’’ المؤرخ العربي زين نور الدين زين.[1]

’’فَهُم (أي المستعمرون) يؤيدون المشروع العربي لمحمد علي، فإذا أوشك أن ينجح، وقفوا ضده، مع الإسلام العثماني، ثم هم يناصرون العروبة بالمشرق، ضد إسلام آل عثمان، و في ذات الوقت يقتسمون الوطن العربي، و يخرجون من الحرب العالمية الأولى بتصفية الخلافة الإسلامية و مشروع الدولة العربية جميعاً، و في مواجهة الفكر الإسلامي زرعوا العلمانية و التغريب، و لمحاربة المد القومي الناصري سعوا لإقامة الأحلاف تحت أعلام الإسلام’’ الدكتور محمد عمارة.[2]

* تطورات الحرب الكبرى الأولى هي الفصل الأخير في مسلسل القضاء على الخلافة الإسلامية

في يوم 28 يوليو/ تموز/ جويلية سنة 1914 اندلعت الحرب الكبرى الأولى بعد شهر من اغتيال ولي عهد النمسا على يد الصرب، و شهدت هذه الحرب تطورات سريعة كنشوب الثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية بتحريض من بريطانيا التي كانت تتفق مع حلفائها على تقسيم البلاد العربية في اتفاقية سايكس- بيكو في نفس العام (1916) ثم صدور وعد بلفور لمنح اليهود وطناً قومياً في فلسطين، و قد غيرت هذه التطورات شكل الشرق العربي الإسلامي الذي قُسم و وقع تحت الاحتلال و نُصب على حكمه دمى غربية لتنفيذ سياسات الاستعمار، و هذه التبعات مازالت مستمرة إلى اليوم، و كان الختم الرسمي الذي صادق على هذه التغيرات هو تنازل النظام الكمالي في مؤتمر لوزان (1923) عن أملاك الدولة العثمانية ثم قيامه بإلغاء منصب الخلافة الإسلامية نفسه (1924) بعدما كان قد ألغى السلطنة العثمانية (1922) في حدث تجهد كثير من الكتابات لاستخراج دليل على تورط الغرب فيه في مؤتمر لوزان وحده، و لكن متتبع سير الأحداث التاريخية يجد أن إلغاء الخلافة كان تتويجاً لجهود غربية سابقة عملت على تقليص الحضور الموحد لبلاد الشرق العثماني و منعه من النهوض ثانية بعد تسرب علامات الضعف الشديد إلى جسده و عدم قدرته على مواجهة العدوان الأوروبي في الوقت الذي كان نجم أوروبا في صعود منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ومما يؤكد حقيقة الهدف من هذه الجهود الغربية اختلاف مصير الدولة العثمانية عن مصائر بقية المهزومين في الحرب الكبرى التي كانت الفصل الأخير في مسلسل القضاء على الخلافة الإسلامية.

* هل الدليل على تورط الغرب محصور في مؤتمر لوزان؟

عند الحديث عن إلغاء الخلافة الإسلامية تزخر كثير من الأدبيات بذكر ما يُعرف بالشروط الأربعة التي فرضها وزير خارجية بريطانيا اللورد كيرزون على تركيا الكمالية في مؤتمر لوزان سنة 1923 للاعتراف باستقلالها و هي: إلغاء الخلافة و طرد الخليفة و مصادرة أمواله و إعلان علمانية الدولة، و تختلف المراجع فيما بينها على هذه الشروط و لكنها تجمع على كونها أربعة و كون إلغاء الخلافة من ضمنها بل على رأسها، و في نفس الوقت تخلو الكتب الغربية المعتمدة على الوثائق الرسمية من ذكر هذه الشروط، و رغم أنه لا يُستبعد إملاؤها في ذلك الزمن الذي تميز بالمؤامرات و الاتفاقيات السرية، فإن تتبع سير العلاقة بين الدولة العثمانية بصفتها آخر خلافة إسلامية و الدول الغربية الكبرى يبين أن هذه الشروط لو صحت فإنها وليدة سلسلة طويلة من الحوادث التي تبين المخطط الغربي المستمر و المعبر عن مصالح ثابتة يلتزم بها الساسة المتعاقبون مهما تباينت انتماءاتهم الحزبية، و ليس مجرد مؤامرة عابرة في غرفة مظلمة في ليلة غير مقمرة، و ذلك في سبيل إبقاء منطقة الشرق العربي الإسلامي بلا قوة ذاتية، و من ثم كان القضاء على الخلافة بصفتها رمز وحدة بلادنا من مستلزمات السياسة الغربية في هذه المنطقة و هو ما دلت عليه كثير من الأحداث غير المحتاجة لإثبات شروط كيرزون بصفتها الدليل الدامغ و الوحيد على ضلوع الغرب عامة و بريطانيا خاصة في القضاء على رمز وحدة هذه الأمة.

* تطور المصالح الغربية في الشرق العربي الإسلامي:

منذ ظهور علامات الضعف على الدولة العثمانية التي كانت توحد كيان الشرق العربي، لم تكن مصالح الغرب الجمعية تنسجم مع بروز كيان قوي مرة أخرى، و لهذا قامت الدول الغربية على اختلافها بوأد أية محاولة نهضوية تنشأ في بلادنا لأنها ستهدد المصالح الغربية كما شخصها أصحابها، و قد تغيرت هذه المصالح مع تغير الظروف العالمية و لكنها كانت تقتضي باستمرار عرقلة قيام كيان قوي: فموقع الشرق العربي كان منذ قديم الزمن ملتقى طرق التجارة العالمية و موضع اهتمام الكيانات القائمة على أطرافه، و قد استمر هذا الاهتمام في العصر الحديث، إذ أن موقع الدولة العثمانية بين البحر المتوسط و الهند، درة التاج البريطاني، وضعها في مواجهة مباشرة مع بريطانيا التي تريد ضمان الوصول إلى مستعمرتها باحتلال مواقع عثمانية مثل عدن (1839)، و التمدد داخل الخليج، و هذا ما حفز سياستها المعارضة لمشروع محمد علي باشا في البلاد العربية إذ كانت تريد الإبقاء على ضعف الدولة العثمانية و عدم تجديد شبابها كي لا تقف في وجه الوصول إلى الهند، و لما اكتملت الثورة الصناعية و زاد رأس المال الأوروبي سعت الدول الاستعمارية الغربية لتسويق بضائعها و استثمار رأسمالها في بقية العالم و هذا ما جعل لها مصلحة في عرقلة أية صناعة محلية بالإضافة إلى حاجتها لتأمين وصول المواد الأولية إلى مصانعها في الغرب، و لما حفرت قناة السويس و أصبحت طريقاً مختصراً إلى الهند اهتمت بريطانيا بالسيطرة عليها بعد شراء أسهمها من الخديو اسماعيل الذي ورطته الاستثمارات الأجنبية بالديون، فأصبح لبريطانيا في مصر أكثر من مصلحة: قناة السويس بصفتها معبراً، و أموال الدائنين، فاحتلتها سنة 1882، و فكرت منذ هزيمة محمد علي بإنشاء كيان يهودي ليكون حاجزاً في وجه طموحات الوالي المصري المستقبلية ثم حارساً لقناة السويس و طريق الهند، هذا بالإضافة إلى الكيان الاستيطاني الفرنسي في الجزائر و الذي قام بتلبية مجموعة من المصالح المادية و الثقافية لفرنسا، و كان هناك أيضاً الحضور الأجنبي الثقافي لاسيما الفرنسي و الأمريكي المركز في الإرساليات التبشيرية و المدارس و الكليات و المستشفيات الأجنبية و المحاولات الاستيطانية التي كانت طلائع الغزو الاستعماري و تتطلب حماية خاصة بصفتها مصالح أجنبية، كما كانت الامتيازات الأجنبية التي منحتها الدولة العثمانية زمن قوتها للتجار و المواطنين الأجانب مصلحة حيوية للدول الغربية و هي مستعدة للتدخل بالقوة المسلحة للحفاظ عليها، و قد أدت هذه الامتيازات إلى توسع آخر في المصالح الغربية باتخاذ الأقليات الدينية و القومية موضعاً للحماية الأجنبية.

هذا كله قبل اكتشاف النفط، فلما اكتشف أصبحت السيطرة على مصادره المتركزة في الشرق العربي و إيران مصلحة جديدة للغرب تقتضي عدم التعامل مع جهة شرقية واحدة قوية تتحكم بآباره أو بعوائده الضخمة أو بالاستثمارات الأجنبية و التجارة العربية الضخمة، و أصبحت قناة السويس هي المعبر الرئيس للنفط إلى بريطانيا و فرنسا و الغرب عموماً الأمر الذي سيبقي على أهميتها حتى بعد استقلال الهند، هذا بالإضافة إلى كونها معبراً بريطانياً و عالمياً تملك بريطانيا نصف أسهمه تقريباً، و بقيام الثورة البلشفية في روسيا (1917) و فشل العدوان الغربي عليها لوأدها، أصبح الحفاظ على بلادنا خارج النفوذ الشيوعي مصلحة جديدة للغرب في بلادنا اقتضت إقامة القواعد العسكرية التي لن يقبل بها نظام قوي مستقل و لكن أنظمة التجزئة ترحب بها بصفتها حماية لوجودها و مصدراً لرزقها حين تقبض ثمن أجرتها، كما اقتضى إبعاد الخطر الشيوعي دعم الكيان الصهيوني الذي أقيم في البداية لغايات مختلفة تماماً هي: حماية المصالح البريطانية في المشرق العربي و تثبيت الوجود البريطاني في مصر و تأمين قناة السويس و الطرق التجارية إلى الشرق، و الحؤول دون تحقيق الأطماع الفرنسية في شرق المتوسط و إقامة جسر بين البحر المتوسط و حقول النفط في العراق،[3] و لكن هذا الكيان احتفظ بأهميته الاستراتيجية المستمدة من كونه طليعة للغرب على أرض الشرق كما نوى منشئوه و لهذا أصبح في خدمة الأهداف الغربية عموماً مثلما ثبت في خدمته المصالح الفرنسية إضافة للبريطانية في العدوان الثلاثي 1956 ثم في وكالته المفتوحة عن المصالح الأمريكية بعد ذلك، و من ثم أصبح مصلحة حضارية غربية مستقلة قائمة بذاتها في هذه المنطقة الحيوية حتى بعد زوال الاتحاد السوفييتي، و أصبحت الملاحة في قناة السويس مصلحة حيوية لهذا الكيان الذي هو بدوره مصلحة غربية أخرى قائمة بذاتها و يقتضي بمفرده سعي الغربيين لإركاع كل منطقتنا لقيادته كما تشير مشاريع الشرق أوسطية المتعاقبة مع ما يستلزمه هذا من عرقلة وحدة بلادنا و منع القوة بكل أشكالها عنا كي لا نقاومه أو حتى نهدده من جهة و لا ننافسه من جهة أخرى، و من هنا التعهد الأمريكي و الغربي العلني و المجمع عليه بإبقاء الكيان الصهيوني متفوقاً نوعياً على مجموع البلاد العربية، و على ذلك المنطق التفتيتي سارت سياسة الغرب المعاصر كما سيأتي.

كما استمر الاهتمام الغربي بموقع ’’الشرق الأوسط’’ بين قارات العالم القديم و كونه صلة الوصل بينها و هو بذلك ’’أهم المناطق الاستراتيجية في العالم’’ و لهذا ’’نحن ملزمون بإعطاء الشرق الأوسط أولوية عالية جداً، و لا نستطيع أن نتخلى عن وضعنا الخاص في المنطقة... و السماح لوضعنا بأن يكون عالة على ترتيبات ذات طابع دولي’’ كما قال رئيس الوزراء البريطاني السابق أنتوني إيدن في مذكرة حكومية عندما كان وزير خارجية و عضواً في لجنة قناة السويس و يرد في طرحه على اقتراحات التخلي عن المسئوليات الامبراطورية سنة 1945،[4] و إذا كانت الأمور قد سارت بعد ذلك بغير ما يشير هنا فكلامه يدل على التوجهات البريطانية التي حكمت فيما سبق، و رفض الترتيبات الدولية يدل على النزعة الاحتكارية التي حكمت السياسة البريطانية في بلادنا و عملت على استمرار التفرد بها، و في سنة 1947 حدد ناحوم غولدمان الذي سيصبح رئيس المنظمة الصهيونية أهمية فلسطين قائلاً إن اهتمام اليهود بها ليس لأسباب دينية أو اقتصادية ’’بل لأن فلسطين هي ملتقى الطرق بين أوروبا و آسيا و أفريقيا، و لأنها المركز الحقيقي للقوة السياسية العالمية، و المركز العسكري الاستراتيجي للسيطرة على العالم’’،[5] و في نفس العام أجمع موظفو الخارجية البريطانية على رفض فكرة الانسحاب من الشرق الأوسط و وصفوا جعله حيادياً بالحماقة،[6] فما بالنا ببروز قوة محلية مستقلة؟، و هو أيضاً ما يشير إلى النزعة الاستئثارية التي تميزت بها السياسة البريطانية في شرقنا زمناً طويلاً، كما جاء في اجتماع لحلف شمال الأطلسي سنة 1965 على لسان الممثل الأمريكي أن الشرق الأوسط هو الجناح الأيمن لأوروبا عسكريا و يحتوي على ثلثي احتياطيات النفط المعروفة آنذاك،[7] و كان صناع السياسة البريطانيون و الأمريكيون قد أشاروا منذ سنة 1950 إلى أن التحكم ’’بالشرق الأوسط’’ يعني التحكم في الوصول إلى ثلاث قارات.[8]

و يمكننا أن نضيف إلى سلسلة المصالح السابقة قرب ’’الشرق الأوسط’’ من أوروبا و وقوعه في دائرة الأطماع الإقليمية لدولها حيث خيّل لفرنسا في العصر الحديث أن الجزائر جزء منها، و أن لها روابط تاريخية بسوريا تعود إلى حروب الفرنجة، كما حدث الأمر نفسه لإيطاليا مع ليبيا، هذا إضافة إلى أطماع روسيا في البلقان باسم الجامعة السلافية و باسطنبول و مضائقها بحجج دينية تخفي أسباباً استراتيجية، و بشرق الأناضول بحجة الأرمن رغم أنها تقمعهم في بلادها، و أطماع امبراطورية الهابسبورغ النمساوية في البلقان أيضا، و إضافة إلى ذلك أطماع الاستعمار التقليدي كأطماع بريطانيا في مصر و العراق، و أطماع فرنسا في تونس، كل هذه الأطماع الإقليمية كلفت الدولة العثمانية حروباً طاحنة و ثورات عاتية و معارك حامية أدت إلى استنزافها و لم يكن من مصلحة الغرب الأوروبي أن تقف هذه الدولة ثانية على رجليها و ذلك كي لا تستعيد ما سلب منها، و من أدل الوقائع على ذلك رفض أوروبا مجتمعة تدخل محمد علي باشا بصفته والياً عثمانياً لإخماد الثورة اليونانية بقوته الصاعدة و قيامها بتحطيم الأسطول العثماني المصري في معركة نافارين (1827) و كانت فرنسا التي دعمت الوالي المصري سابقاً على رأس مهاجميه في المعركة لأنها كانت تريد قوته في سبيل مصالحها،[9] أي أن يكون عميلاً لها و ينفذ مخططاتها، كحملة على شمال إفريقيا مثلاً حيث ستحتل الجزائر قريباً، و ليس لأجل القوة الذاتية للعثمانيين.

و تدل حوادث الثورات العربية الأخيرة على محاولات الغرب الحثيثة الإبقاء على نفوذه و عدم إحداث تغييرات ثورية في أوضاعنا، يشهد على هذا بقاء نفس الأطقم القديمة في مواقع اتخاذ القرار و هي الوجوه التي اعتاد الغرب على التعامل معها و الاطمئنان إليها فيما سبق و لا يغير من الأمر أن يكون شخص واحد من هذا الطقم أو ذاك قد اعتزل حتى لو كان رأس النظام، و لو استعملنا التعبير الماركسي فإن أدوات الإنتاج الغربية ’’الجديدة’’ لم تؤد إلى علاقات إنتاج جديدة، هي نفسها مازالت في كل مكان، و لهذا فإن هذه الأدوات التي يستعملها الغرب في إخضاع أمتنا ليست جديدة على الإطلاق.

و خلاصة الأمر أنه رغم تغير المصالح الغربية في منطقتنا، من الوصول إلى الهند و الشرق الأقصى إلى صد التوسع الروسي ثم السوفييتي إلى تأمين وصول إمدادات النفط إلى الغرب، فإنها لم تفقد بريقها رغم استقلال الهند و زوال الاتحاد السوفييتي و تطور وسائل المواصلات و الأسلحة الجوية التي قللت من أهمية الحدود البرية و الحواجز الطبيعية، و لم تصرف أنظار الغربيين عن بلادنا بل تطورت مصالحهم بما يزيد من تشبثهم بالهيمنة عليها مع مرور السنين و تغير اللاعبين، و في هذا المجال يشير المؤرخ زين نور الدين زين إلى ’’خطورة الدور الذي يلعبه الموقع الجغرافي في مشكلات العالم’’ و لهذا كان جملة من الكتاب البارزين يؤمنون أن دراسة الجغرافيا أمر ضروري لفهم تطور أي بلد من البلدان، و يضيف قائلا إن ’’الجغرافيا تعد من أقل العوامل تعرضا للتغير في تاريخ الشعوب’’.[10]

وقد عبر الرئيس الأمريكي السابق ترومان عن أهمية منطقتنا في سنة 1946 بقوله في خطاب الجيش: ’’في هذه المنطقة موارد طبيعية هائلة، فضلاً عن أنها منطقة تقع عبر أفضل الطرق البرية و المواصلات الجوية و المائية، فهي لذلك بقعة ذات أهمية اقتصادية و ستراتيجية عظيمة، غير أن شعوبها ليست من القوة بحيث أن الدولة الواحدة، أو كلها مجتمعة تستطيع أن تقاوم العدوان القوي إذا أتاها من الخارج’’،[11] و هذه هي نظرية الفراغ[12] التي يعتنقها و ينشرها الغربيون لتبرير تطفلهم على بلادنا التي لم تكن على الدوام ضعيفة و مقسمة بل كانت فيما سبق دولة واحدة قوية ’’تشيع الرعب في أوروبا’’ و وصفها المؤرخ جيبون بالصاعقة العثمانية التي نشأت عنها ’’المسألة الشرقية’’ التي كانت في مرحلتها الأولى تعني ’’مشكلة القضاء على قوة الإسلام السياسية’’ - وفقا لإدوارد دريو- بعدما أنشأ الأتراك العثمانيون أكبر و أقوى امبراطورية إسلامية منذ ظهور الإسلام،[13] و ذلك قبل أن يضعف الكيان العثماني و تتحول المسألة إلى طريقة تقسيمه بين الطامعين فيه من أسلاف ترومان الذي أتى فيما بعد ليعيرنا بضعفنا، فما هو الدور الغربي في هذا التحول؟

* البداية: تخريب ما هو قائم و الحؤول دون عودة الروح إليه

لقد ظهرت فكرة مواجهة الدولة العثمانية منذ نشوئها حتى أن وزيراً رومانياً أصدر في سنة 1914 كتاباً بعنوان مئة مشروع لتقسيم تركيا (الدولة العثمانية) عد فيه عشرات المشاريع التي قدمت للبابوات و ساسة أوروبا للهجوم على الشرق و تقسيمه بين دول أوروبا و الاستيلاء على بيت المقدس منذ نهاية حروب الفرنجة بفتح عكا سنة 1291،[14] وهو ما يشير إلى طبيعة المخططات الغربية المستمرة والتي فرضتها ظروف العداء الموضوعية التي عبرت عنها حروب الفرنجة، و هذا أمر لا يتعلق بمؤامرات سرية تدبر في الليالي المظلمة بل بتعارض موضوعي فرض نفسه على الأجيال المتعاقبة من الساسة و المسئولين و الشعوب أيضاً، و بصعود نجم الدولة العثمانية كان الهدف الغربي هو القضاء على قوتها كما مر، و قد استفادت الدول الكبرى كثيراً من الضعف الذي طرأ على الدولة العثمانية التي تخللت جيوشها الظافرة أوروبا فيما سبق و وصلت أسوار فيينا عاصمة امبراطورية الهابسبورغ، و أرادت لها بريطانيا و فرنسا أن تكون في مرحلة ضعفها حاجزاً في وجه الأطماع الروسية بالإضافة إلى استخدامها سوقا لترويج البضائع الغربية المصنعة بعد اكتمال الثورة الصناعية،[15] و قد استمرت سياسة الحفاظ على الأملاك العثمانية و اتخذت طابعاً رسمياً في حرب القرم (1853- 1856) و معاهدة باريس التي تلتها (1856)، و لكنها مع ذلك لم تمنع عملية تشجيع الثورات الانفصالية ضد العثمانيين، و في ذلك يوجز المؤرخ دونالد كواترت القول إن الدول الكبرى لم تكن ترى مصلحة لها في تفكك الدولة العثمانية و من ثم تعاظم النفوذ الروسي في منطقة البلقان، و إن الكثير من قادة أوروبا ’’كانوا يخشون أن يؤدي انهيار الدولة العثمانية إلى تهديد السلام الإقليمي و زرع الفوضى التي لا تحمد عقباها، لذلك اتفقوا فيما بينهم على الحرص على وحدة كيان الدولة العثمانية، و يمكن القول بأن موقف هذه الدول الأوروبية كان يتلخص في إجماع هذه الدول على أن مصلحتهم المشتركة تقضي بترك بنية الدولة تتصدع شريطة ألا يؤدي هذا التصدع إلى الانهيار التام إن صح التعبير، هذا من ناحية، و من ناحية أخرى فما من شك أن دعم الدول الأوروبية للحركات الانفصالية و الثورات الداخلية قد أسهم في تعجيل انهيار الدولة العثمانية و هو الحدث الذي كان يخشاه الأوروبيون و يسعون لتجنب وقوعه’’.[16]

ثم غيرت بريطانيا سياستها بعد الحرب الروسية العثمانية (1877- 1878) في مؤتمر برلين الذي تلاها (1878) لتتجه نحو اقتطاع أجزاء من الدولة العثمانية و تقسيمها على مهل بين الحلفاء فاحتلت هي جزيرة قبرص (1878) و مصر (1882) و احتلت فرنسا تونس (1881) و احتلت النمسا البوسنة و الهرسك (1878) و استقل جزء من بلغاريا، و يحلل بعض المؤرخين سبب هذا التغير في السياسة البريطانية بالقول إن بريطانيا فقدت الأمل في شفاء ’’الرجل المريض’’ بعد هزيمته أمام الروس في حرب 1877 التي جعلت الساسة الإنجليز يعتقدون أن معارك هذه الحرب أثبتت بجلاء أن المحاولات العديدة التي بذلت طوال القرن التاسع عشر لتمكين الدولة العثمانية من البقاء دولة قوية متماسكة الأجزاء، إنما هي سياسة عقيمة و أنها مضيعة للوقت و الجهد و الأموال و الأرواح، و أن بقاءها دولة متداعية يؤلف خطراً جسيماً على المصالح البريطانية و يفسح المجال للنفوذ الروسي، و لذلك قررت بريطانيا تطوير سياستها و اتباع سياسة جديدة تقسم بموجبها الممتلكات العثمانية و تستأثر لنفسها بالمناطق الواقعة على طريق الهند و تصلح لضمان الوصول إليها،[17] و سنرى أن قوة الدولة العثمانية لم تكن أولوية حقيقية لدول أوروبا و أن هذه الدول فضلت مصالحها المادية على بقاء الدولة و أنها شجعت الحركات الانفصالية التي استنزفتها و من ثم لا يمكن أن تكون النتيجة النهائية لهذا الدعم إلا مزيداً من الضعف و لم يكن لأوروبا حق في التعجب من استمرار التراجع العثماني بعد كل جهودها في استنزافها اقتصادياً و عسكرياً الأمر الذي يجعل العجب من الاستمرار العثماني و ليس من هزيمة الدولة و تراجعها، و كيف يمكن القول إن أوروبا كانت تعمل لتقوية الدولة العثمانية و تتجنب انهيارها و في نفس الوقت تشجع الحركات الانفصالية و تستنزف الاقتصاد العثماني كما سيأتي؟

* سبب بقاء الدولة العثمانية رغم الضعف في آخر أيامها

عند الحديث عن سبب استمرار الدولة العثمانية رغم الضعف و التراجع، لا يمكننا أن نعزو حركة التاريخ إلى عامل واحد هو الإرادة البريطانية ضد الأطماع الروسية كما شاع في بعض الأدبيات المثبطة، لاسيما أن بريطانيا تخلت عن سياسة تأييد العثمانيين بعد مؤتمر برلين (1878)، و كان التنافس الأوروبي و اختلاف الدول الكبرى هو العامل الأهم من التأييد البريطاني في ظاهرة استمرار الدولة العثمانية، مع عدم إغفال أن القوة العسكرية العثمانية لم تكن قد انتهت في ذلك الوقت و لم تكن الدولة كياناً عاجزاً لا حول و لا قوة لها، من الناحية العسكرية على الأقل كما يقول المؤرخ المعروف إريك هوبزباوم[18] مضيفاً: ’’و تمتع الأتراك بسمعة رفيعة بوصفهم جنوداً أشداء، و كان لهم دور حاسم في التصدي الفاعل لعدوهم الأخطر، و هو الجيش الروسي و الدول الأوروبية المتنافسة، و في الحيلولة دون تفكك الإمبراطورية العثمانية أو إرجائه على الأقل’’،[19] و يقول أيضاً: ’’و كان الأوروبيون يكنون احتراماً مشوباً بالحسد تجاه الإمبراطورية العثمانية لأن قوات المشاة لديها كانت قادرة على الوقوف في وجه الجيوش الأوروبية’’،[20] و ذلك في أوج التوسع الاستعماري الأوروبي حين بقيت الدولة العثمانية ’’أقوى دولة إسلامية صامدة في وجه الإمبريالية الأوروبية’’[21] كما يقول كواترت، و ظل الجيش العثماني حتى لحظاته الأخيرة في الحرب الكبرى الأولى سنة 1917 ’’أبعد ما يكون عن الهزيمة’’[22] رغم انتصارات الحلفاء في قول مؤرخ ثالث هو مايكل أورين.

و مما يؤكد ذلك ما لاحظه المؤرخون من تحقيق انتصارات عثمانية مهمة في ساحة الحرب الكبرى الأولى (1914- 1918) في جبهات عديدة (القوقاز و البلقان و العراق و فلسطين و الجزيرة العربية و مضائق اسطنبول) جعلت من هزيمة العثمانيين مهمة ليست سهلة، و عن بقاء الدولة العثمانية يقول المؤرخ دونالد كواترت: ’’في تقويمنا للعوامل التي ساعدت الدولة العثمانية على البقاء، عندما كانت جاراتها الأوروبيات تتفوق عليها عسكرياً و اقتصادياً (تفوقاً) واضحاً، نحن نسلم بأثر عاملين: منافسات القوى العظمى و المهارات الديبلوماسية العثمانية على السواء’’،[23] و لعل هذا يفسر نجاة الدولة من الاحتلال العسكري الذي لقيته الولايات التي استقلت عنها كتونس (1881) و مصر (1882) بعد إفلاس الجميع و تخلي الإنجليز عن تأييد العثمانيين، و كانت الأهمية الدولية للدولة العثمانية هي التي جنبتها مصير الاحتلال كما يقول المؤرخ الاقتصادي شارل عيساوي،[24] و يلاحظ كثير من المؤرخين أن الدولة العثمانية ظلت ضمن مساحات قليلة من العالم خارج إطار الاستعمار الأوروبي في زمن التزاحم الاستعماري الذي هيمن على معظم الكرة الأرضية باستثناء الصين واليابان و فارس و الدولة العثمانية.[25]

* بقاء الدولة العثمانية مع ضعفها لم يكن الأولوية الأولى للغرب

و كانت دول أوروبا و بخاصة بريطانيا تفضل مصالحها التجارية على مصلحتها في استغلال بقاء الدولة العثمانية و لو بصورة هزيلة،[26] و قد تجسد هذا التعارض الموضوعي في المصالح في وقوف الغرب الأوروبي ضد كل مشاريع الإحياء التي نفذتها أو حاولت تنفيذها دولة الخلافة مثل فكرة الجامعة الإسلامية و مشروع سكة الحجاز أو سكة حديد بغداد أو مشاريع الإصلاح الاقتصادي و القضائي التي مست الامتيازات الأوروبية في الدولة العثمانية، حتى أن السلطان عبد الحميد الثاني تمنى في سنة 1902 أن تحظى دولته بفترة هدوء لمدة عشر سنوات فقط تتوقف فيها مؤامرات الدول الكبرى عليها ليتمكن من السير في الطريق الذي سارت فيه اليابان البعيدة عن ’’الوحوش الأوروبية الكاسرة’’ التي صرف العثمانيون الملايين على إخماد مؤامراتها بدل ’’أن تصرف على مشاريع حيوية نستفيد منها’’،[27] و لم يكن تصدي الغرب لهذه المشاريع من باب الشر المحض الذي يبغي إلحاق الأذى بالآخرين بلا سبب بقدر ما كان تعبيراً عن التناقض الموضوعي بين مصالح كيانات الغرب و نهضة كيان يجمع بلاد الشرق تحت لواء واحد، و بدا هذا التعارض أيضاً في سياسة التصدي العنيف لأية محاولة نهضوية في البلاد العثمانية كما حدث مع نهضة محمد علي باشا في مصر و التي لاحظ كثير من المؤرخين وقوف أوروبا في وجه طموحاتها بعنف، و في ذلك يقول كواترت إن الدول الأوروبية لم تكن لتسمح بظهور دولة مصرية قوية و ما يترتب على ذلك من اختلال ميزان القوى الذي كانت الدول الأوروبية تود المحافظة عليه،[28] و يقول بيتر مانسفيلد إن محمد علي كان بوسعه تحدي السلطان و انتظار سقوطه لكن بريطانيا فضلت أن تبقي على الإمبراطورية مترابطة على أن تكون مجزأة يسهل ابتلاعها من قبل المتمردين و المنافسين، و لذلك لم تكن متحمسة لإحلال قوة إسلامية توسعية متحركة محل الامبراطورية العثمانية، و كان هذا بالضبط ما يقلق قادة الدول الأوروبية، و قد صممت بريطانيا آنذاك على إحباط طموحات محمد علي بإفشال كل المساعي السلمية و رفض قاطع للعرض الذي تقدم به للاتفاق مع السلطان[29] رغم أنها كانت من شجع الوالي نفسه على الثورة على العثمانيين، و يشير مؤرخ ثالث إلى أن بريطانيا أحبطت جهود محمد علي لكونها لا تريد تكوين امبراطورية إسلامية جديدة لاسيما واحدة تحاول إيجاد قاعدتها الصناعية الخاصة.[30]

و قد ظهر التعارض بين القوى الغربية و قوة الشرق العثماني في الزحف التدريجي و احتلال البلاد العثمانية الواحدة تلو الأخرى في سياسة اتخذت من فكرة الاستقلال قناعاً لفصل الولايات عن الدولة تمهيداً لوقوعها في براثن الهيمنة الغربية كما حدث مع الجزائر و تونس و مصر و بلدان الخليج، ثم مع القومية العربية كلها بإثارتها بفكرة الاستقلال العربي و الخلافة العربية تمهيداً لاحتلال شرق المتوسط بعد إعلان الثورة العربية و نهاية الحرب الكبرى الأولى.

* مناوأة منصب السلطنة العثمانية و محاولة نزع الخلافة الإسلامية منها ضمن جهود بريطانيا للقضاء على الخلافة

يلاحظ زعيم الوطنيين المصريين و داعية الجامعة الإسلامية مصطفى كامل باشا أن جهود أعداء الدولة العثمانية لتأسيس خلافة عربية تأتي في إطار محاولتهم القضاء على هذه الدولة التي تخشى أوروبا من قوتها و نفوذها و أعداء الإسلام يودون ان يزول اسمها من الوجود حتى تموت قوة الإسلام و تقبر سلطته السياسية و تقوم بدلاً من الدولة العثمانية خلافة تكون ألعوبة في يد إحدى الدول الكبرى، و رأوا أن فصل الخلافة الإسلامية من السلطنة العثمانية يضعف الأتراك و يقتل نفوذهم بين المسلمين و يجعلهم أمة إسلامية عادية، و قد تلقف الإنجليز مشروع الخلافة العربية لأنهم أدركوا أن احتلالهم الأبدي لمصر سبباً للعداوة بينهم و بين الدولة العثمانية لأن السلطان العثماني لا يقبل مطلقاً الاتفاق معهم على بقائهم في مصر، و أن خير وسيلة تضمن لبريطانيا البقاء في مصر و وضع يدها على وادي النيل هو هدم السلطنة العثمانية و نقل الخلافة الإسلامية إلى أيدي رجل يكون تحت وصاية الإنجليز و آلة في أيديهم، و لهذا أخرج ساسة بريطانيا مشروع الخلافة العربية.[31]

و قد أثبتت الأيام صحة تحليل الباشا، فقد استمرت بريطانيا في تبني مشروع الخلافة العربية إلى أن حفزت إعلان الثورة العربية ضد العثمانيين سنة 1916 تحت شعار عودة الخلافة للعرب، بل إنها عمدت بعد اندلاع الحرب الكبرى سنة 1914 إلى إنهاء السيادة العثمانية على مصر و خلع الخديو عباس حلمي الثاني من منصبه بحجة ارتباطه بالعثمانيين، و نصبت عمه حسين كامل سلطاناً على مصر لمناوأة منصب السلطنة العثمانية،[32] و مما يلفت الأنظار رفض شعب مصر لهذا السلطان الألعوبة بمحاولة اغتياله مرتين مع بعض وزرائه،[33] و كل تلك الجهود البريطانية استهدفت محاربة دولة الخلافة و إضعاف نفوذها و لا يمكن إلا أن تدرج ضمن محاولة القضاء على منصب الخلافة نفسه لاسيما بعدما رفض الإنجليز حتى منصب الخليفة الألعوبة و ذلك بعدم اعترافهم بانتقال الخلافة إلى العرب الذين أعلنوا بيعة الشريف حسين بعدما حاربوا تحت لواء بريطانيا في أعقاب حصولهم على الوعد بعودة الخلافة إليهم.

* أوروبا لم تكن سعيدة بالتغريب العثماني المستقل و فضلت مصالحها الآنية على رعاية تلاميذها مما أدى إلى الحرب بين التغريب و الغرب

هذا الزحف التدريجي اتخذ صورة عنيفة مع انفجار الحرب الكبرى الأولى سنة 1914، مع أن وصول مدرسة التغريب المتمثلة في حزب الاتحاد و الترقي إلى الحكم سنة 1909 بعد الانقلاب على السلطان عبد الحميد بشر بانسجام بين الغرب و المعارضة العثمانية السابقة التي رعاها الغربيون في بلادهم و البلاد التي تحت حكمهم، و قد حاول الحكام الجدد مد يد السلام إلى القوى الغربية و قدموا لها بلادهم على طبق من ذهب،[34] و لكن أوروبا كانت أكثر اهتماماً بمصالحها منها برعاية التغريب الديمقراطي في الدولة العثمانية و أثبتت طمعها بأرض العثمانيين الدستوريين الديمقراطيين كطمعها بأرض الاستبداد الحميدي، مما دمر إمكانات التطور الديمقراطي في الدولة العثمانية كما يقول المؤرخان شو،[35] و في ذلك يقول مانسفيلد: ’’على الرغم من نظر بريطانيا و فرنسا بعين العطف و الاستحسان لثورة الأتراك القوميين الشباب، فإنهما لم تكونا على استعداد لتقديم أية ضمانات إقليمية لموقع تركيا المتبقي في أوروبة في ضمن الولايات البلقانية ضمن نطاق الإمبراطورية التركية’’،[36] و رغم الميول الغربية الواضحة للحكام الجدد فإن تعارض مصلحة بلادهم بصفتها دولة عظمى لها كيانها المستقل مع مصالح الغرب الذي يريد الهيمنة جعلهم يتراجعون عن الميل للتحالف مع بريطانيا لما قامت الحرب الكبرى نظراً لأن هذا الخيار لم يكن متاحاً بسبب تضارب المصالح،[37] و هذا هو الفرق بين التغريب العثماني بصفته اتجاهاً يبحث عن مصالح دولته المستقلة عن الغرب، و إن كان باتباع نهج الغرب، و تغريب دولة التجزئة الذي أحس بضآلة كياناته و من ثم عدم قدرتها على فرض مصالح مستقلة عن الدول العظمى مما جعله يتبع سبيل خدمة هذه المصالح لعله يصيب شيئاً في ظلها.

’’و قد أدرك الساسة العثمانيون أن اتخاذ الدولة العثمانية موقفاً محايداً في هذه الحرب لن يكون في مصلحتها و ذلك لأن الطرف المنتصر سيعمد لا محالة إلى تجزئة الدولة العثمانية’’،[38] و لأن الحلفاء كانوا يطمعون في الأراضي العثمانية فضلاً عن احتلالهم الفعلي أجزاء كبرى منها،[39] قرر الساسة العثمانيون دخول الحرب إلى جانب ألمانيا[40] حين خطت الدولة العثمانية بدخولها الحرب خطوة مصيرية هدفت إلى تحرير نفسها من كل القيود التي فرضتها حالة الضعف عليها كسوء استخدام الامتيازات الأجنبية و الديون، و العودة إلى مكانتها السابقة بين الكبار و استعادة كل ما سلب منها من أقطار و حماية نفسها من مزيد من الغزو،[41] و رغم الانتصارات التي حققتها جيوش الخلافة في هذه الحرب على جبهات اسطنبول و العراق و فلسطين و الحجاز و القوقاز و البلقان، كانت النتيجة النهائية في غير صالحها،  ويلاحظ المؤرخون أن الحرب الكبرى أصبحت نقطة تحول في السياسة الغربية تجاه الدولة العثمانية، و في ذلك تقول موسوعة التاريخ و الحضارة إن الحلفاء اغتنموا ظروف الحرب لتقسيم السلطنة و وضع نهاية للمسألة الشرقية و تم وضع المشاريع التقسيمية، و كان لبريطانيا الدور البارز فيها و كانت محور السياسات و الاتفاقات السرية المتناقضة أحياناً، و إنه منذ دخول السلطنة العثمانية الحرب، بدأت المشاورات السرية لتقسيمها،[42] و كانت بريطانيا تراسل الشريف حسين ’’و الفرنسيون يحذرون من قيام دولة عربية كبرى، خوفاً على مصالحهم في شمال إفريقيا - أي تونس و الجزائر و المغرب- كما يخافون على مستقبل مصالحهم في شرق المتوسط، و كذلك كان الإنكليز يخافون من قيام دولة عربية كبرى و لو تظاهروا بالموافقة على قيام هذه الدولة’’،[43] و لهذا لم يعترف الحلفاء بالخلافة العربية بعد قيامها في أعقاب إلغاء الخلافة العثمانية[44] رغم كونهم من شجعوا الدعاية لها سابقاً لطعن شرعية العثمانيين بها و حاولوا زمناً أن يستغلوا إحياء المنصب لصالحهم إلا أن جميع المحاولات باءت بالفشل،[45] و هو ما يؤكد حرص الغرب على إبقاء منطقتنا ضعيفة تحت هيمنته دون قوة ذاتية بغض النظر عمن يحكمها، و لهذا عارضت الدول الكبرى قيام الخلافة العربية رغم تعهداتها لحلفائها العرب و اتفقت مع مصطفى كمال على إنهاء الخلافة العثمانية رغم العداوة الظاهرة بين الطرفين الكمالي و الأوروبي، و إن هذا الإصرار على مقاومة إحياء الخلافة حتى في الحجاز لا يمكن أن يفسر بمجرد ضعفها أمام الأطماع الروسية لأن الدول التي قامت على الأنقاض العثمانية لم تكن أكثر قوة منها، كما أن روسيا نفسها أصبحت من معسكر الحلفاء ضد دول الوسط و صارت الدولة العثمانية عائقاً في وجه وصول الدعم الغربي إليها في الحرب الكبرى الأولى،[46] و لهذا توجب البحث عن السبب في إلغاء الخلافة في مكان آخر ستفصح عنه الوثائق كما سيأتي.

و في هذا الموضوع تقول موسوعة السياسة إن هذه الحرب كانت فصل الختام في حياة الإمبراطورية العثمانية ’’فبعد أن مكثت حاجزاً، حقيقياً أو شكلياً، في وجه أطماع أوروبا الاستعمارية عدة قرون، جاءت الفرصة عندما تحالفت مع ألمانيا و النمسا ضد الحلفاء، فقرروا الانتقال من مرحلة المحافظة على ضعفها و وراثتها بالتدريج إلى مرحلة اقتسام بقايا أملاكها و الإجهاز عليها مرة واحدة، و كانت اتفاقية سايكس- بيكو سنة 1916 إطاراً لهذا المخطط الجديد، الذي توج بانتزاع كل أملاك الدولة العثمانية في آسيا بموجب معاهدة سيفر، و ذلك عندما انتصر الحلفاء سنة 1918، ثم قام كمال أتاتورك (1298- 1357 هجرية، 1880- 1938 م) بإنقاذ الوطن الأصلي للأتراك، و أراد انتزاع عداء أوروبا و إزالة مخاوفها، فأدار ظهر دولته التركية الحديثة لماضي العثمانيين الإسلامي... (و) أعلن إلغاء الخلافة رسمياً و نهائياً في 3 آذار- مارس 1924 م’’،[47] و في سبيل استرضاء أوروبا قدم لها أتاتورك ما رغبت به في معاهدة سيفر التي وصفت بالمذلة و مع ذلك تم تطبيقها على كل الأراضي العثمانية بما في ذلك المصادقة على وعد بلفور في فلسطين مقابل استثناء تركيا وحدها،[48] و قد أفصح ضابط المخابرات التابعة للجيش البريطاني لورنس العرب من ميدان المعارك التي انهمك فيها ضد الدولة العثمانية عن الأهداف الحقيقية لبلاده في هذه الحرب.

المصدر:

 

http://wefaqdev.net/index.php?page=study&sub_page=view_one&ar_no=492&ty=1

 

قراءة 2097 مرات آخر تعديل على السبت, 11 تموز/يوليو 2015 09:48

أضف تعليق


كود امني
تحديث