أيامنا هذه هى أيام اختلال مفزع لمعايير الحكم على الأمور فى المجال العام فى مصر و فى بلاد العرب، هى أيام سطوة السلطة و الثروة و وعود الحماية و العوائد و الإفادة من الشبكات الريعية نظير تأييد الحكام أو خوفا من التهديد بالتعقب و القمع و العقاب حال المعارضة، هى أيام جنون العنف الرسمى فى بعض المجتمعات العربية و وحشية و دموية عصابات الإرهاب فى مجتمعات أخرى و تلاقى الجنون الرسمى مع الوحشية و الدموية الإرهابية فى طائفة ثالثة من المجتمعات، هى أيام تغييب الحقائق و المعلومات عن المواطن و أيام ممارسة الاستعلاء على حرياته الشخصية و المدنية و السياسية، بل و امتهان كرامته الإنسانية.
دون اختلال معايير الحكم على الأمور، ما كان لمؤسسات و أجهزة الدولة المصرية و لنخب الجهاز الإدارى أن تتجاهل المظالم التى تراكمها انتهاكات الحقوق و الحريات و تداعياتها المجتمعية الخطيرة ــ وضعية الاستقطاب الحاد التى تلغى فرص الاستقرار و التنمية و التقدم، أو أن تقلل من أهمية الأخبار المتواترة عن جرائم التعذيب و تكرر إساءة استغلال المنصب العام من قبل بعض عناصر الأجهزة الأمنية ــ و هى إما أن تعمق من آلام و جراح بعض القطاعات الشعبية التى تقف إزاء منظومة الحكم / السلطة فى خانات المعارضة أو الرفض أو العداء و إما أن تدفع ببعض القطاعات الشعبية الأخرى التى كانت فى مواقع التأييد و الدعم إلى إعادة النظر و الحساب و التقييم و ربما الابتعاد فى صمت أو فى ضجيج، و إما أن تتعامل مع إخفاقات مؤسسات و أجهزة الدولة فى إدارتها للشأن العام و فى ترابطاتها مع الوطن ــ من التأجيل المستمر للانتخابات البرلمانية إلى صندل الفوسفات ــ على نحو يغيب قيم الرقابة و المساءلة و المحاسبة و يخلق لدى الرأى العام انطباعا راسخا مؤداه أن إرادة الحكم/ السلطة لا تريد لهذه القيم أن تتجذر فى واقعنا المصرى و لا تريد إلا استعادة حكم الفرد و فرض ملامح السلطوية الجديدة.
دون سطوة السلطة و الثروة و التحالف بينهما و ثنائيات الاستتباع للحكم فى مقابل الحماية و العوائد التى تؤسس لها و تديرها و تمولها فى شبكات ريعية تقليدية و حديثة، ما كان للإعلام المصرى أن يقبل أن تتحول الحرب على اليمن إلى مسكوت عنه، و أن تغيب تفاصيل الدور العسكرى للقوات المسلحة المصرية، و أن يتم التعتيم على الخسائر البشرية والمادية التى أنزلتها آلات حرب عربية بشعب عربى فقير و تناولتها بموضوعية الكثير من الصحف و وسائل الإعلام العالمية.
دون سطوة السلطة و الثروة على الإعلام العربى و الذى تحولت الكثير من صحفه و إذاعاته و قنواته التليفزيونية إلى كيانات تابعة للممول الخليجى، الحكومى و الخاص، ما كان للنقاش العام فى بلاد العرب أن يتورط فى الاستعلاء الصريح على دماء الضحايا الأبرياء للحرب على اليمن و على الخسائر التى لا يملك لا المجتمع المأزوم بفعل غياب السلم الأهلى و التمويل الإقليمى للطائفيات و المذهبيات المدمرة و لا الدولة الوطنية بمؤسساتها و أجهزتها المتراجعة/ العاجزة القدرة الفعلية على تعويضها.
دون تغييب للحقائق و للمعلومات عن المواطن فى مصر و فى عموم بلاد العرب و دون امتهان لكرامة الناس و حقوقهم و حرياتهم، ما كنا لنجد نقاشنا العام تخترقه التبريرات الفاسدة للعنف الرسمى و لقمع الحكومات (طوائف مبررى الاستبداد و السلطوية و حكم الفرد التى تسيطر على أغلبية الصحف و الإذاعات و القنوات التليفزيونية)، و تنزع إنسانيته استراتيجيات التحايل على المظالم و الانتهاكات و جرائم التعذيب و تجاهل الضحايا، و تلغى قيمه الأخلاقية و التزامه بشروط المعرفة و العلم و العقل و حب الحياة تواتر التبريرات الفاسدة للإرهاب و للعنف أو تواطؤ من لا يريدون إيقاف التوظيف المتهافت للدين فى تبرير جرائم عصابات الإرهاب كداعش و غيرها.
دون اختلال معايير الحكم على الأمور، ما كان للسلطويات القديمة و الجديدة أن تعيد سيطرتها و تفرض سطوتها، سطوة السلطة و الثروة و شبكات الريع، على شعوب العرب و على مصائرها التى يبدو أن ارتباطها العضوى بالاستبداد و التخلف و التطرف و الإرهاب لن يتراجع قريبا.