قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab
الخميس, 05 حزيران/يونيو 2014 10:37

فصول حول العلاقة بين الفكر و الفعل 3/3

كتبه  الدكتور محمد باباعمي
قيم الموضوع
(0 أصوات)
 

لسان القلوب

يقول فتح الله: "القلْب مصدر للخزائن، بحيث إنَّ الله تعالى الذي لم تسعه السموات و الأرض يتجلَّى في هذا القلب. لا الكتبُ و لا العقول ول ا الأفكار و لا الفلسفات و لا البلاغة و الفصاحة و لا السموات و الأرض و لا الكائنات بأجمعها تستطيع الإحاطة بالله -سبحانه و تعالى-، بل تعجز عن التعبير عنه؛ القلب فقط يستطيع أن يكون -و لو بمقياس صغير- ترجمانًا له. أجل، للقلب لسان لم تسمع الآذان بيانًا مثل بيانه، و بلاغة مثل بلاغته. إذن، فعلى الإنسان أن يقطع المسافات في قلبه، و أن يبحث فيه عن مبتغاه، فيصل إلى ربه هناك، و يفنى في حبه، علمًا بأن الله -سبحانه وتعالى- أرسل رسوله محمدًا -صلى الله عليه و سلم- إلينا من أجل هذا"[21].

و لقد أوتي رسولنا الحبيب مفاتيح القلوب، فهو الذي يتربَّع على عروش قلوب الناس و أرواحهم، و لذا ناداه العارفون، و خاطبه المنصفون، بقولهم: "أنت -يا رسول الله- في قرار قلوبنا أبدًا، تعزُّزا و دَلالاً و إن غبت عن العيون. فإنْ كانت قلوبنا ما زالت تنبض بالحياة فإنَّما هي من الإكسير الذي سقيتها أرواحنا. و إنْ كانت صدورنا مفتوحة لك، فهي بفضل جاذبية رسالتك و استيلائها على الألباب. و إذا لم تنادنا من فوق قمم القلوب، فلم نسمع نحن -بدورنا- مِن آفاق أرواحنا أنفاسَك المُحْيِيَة، فسنصفرُّ كالأوراق التي يلتهمها الخريف، و نصير سببًا لهبوب أنسام الحزن في أفقك. و كم كنا نتمنى ألا نتطاير أشتاتا مع الخريف، و ألا نكون وسيلةَ حزن يطرأ عليك... لكن هيهات هيهات!. و لقد جئتَ لتنفخ الروح في القلوب الميتة، ففعلت و أديت و وفيت بما اعتمدتَ عليه من منبع المدد و العناية..."[22].

و لقد صفَّ مؤلِّف "النور الخالد" جملة من الأسئلة الكونية، قال عنها: "لا أستطيع إهمالها و لا الهرب منها"، و هذه الأسئلة جاءت على صيغة التقريع و التأنيب للذات و للضمير، و على شاكلة المحاسبة المضنية التي ألِفها المقرَّبون، و حمل فتحُ نفسه عليها في كلِّ حين؛ و مما جاء فيها:

أنَملك قلبًا لائقًا بسلطان القلوب هذا؟

هل هذا السلطان مستريح في مجلسه من القلوب؟

هل قلوبنا مفتوحة له على الدوام؟

أنلاحظه في قيامنا و قعودنا، في أكلنا و شربنا؟

أنلاحظ محمدًا -صلى الله عليه و سلم- بقلوبنا في جميع حركاتنا و سكناتنا؟

أنسير في جميع شؤون حياتنا على الخط الذي رسمه لنا؟"[23]

هي أسئلة تقريعية لا تنتظر الجواب، لكنها تبحث عمَّن يلتحم بها و تلتحم به، فيتخذها ديدنه بكرة و عشيا، حين الصحَّة و أوان المرض، بل في جميع الظروف و الأحوال؛ فتكون بذلك "وقودا" لقلبه و عقله، و محرِّكا لفكره و فعله.

ينقل فتح الله -في هذا السياق- عن نبيّنا الأواب الأواه، و عن رسولنا الأسوة القدوة، أنَّه -صلى الله عليه و سلم- "تحمّل عِبْئًا كبيرًا و ثقيلاً مثل عبء النبوة ثلاثة و عشرين عاما، و قام بإيفاء حقِّ وظيفته بنجاح منقطع النظير؛ لم يتيسّر لأي صاحب دعوة آخر... و بمثل هذا الروح، و بهذه المشاعر المضطرمة بحب الله، كان يتقدَّم و يقترب من الهدف المنشود و من النهاية المباركة...لقد أدّى مهمَّته بحقٍّ، و قام بالتبليغ على أفضل وجه. لذا فقد كان مستريح الضمير، مرتاح النفس، مطمئنَّ القلب، و كان يتهيأ لملاقاة ربه... كان إنسان مراقبة للنفس مراقبة حسَّاسة جدًّا، لذا فقد قضى حياته كلَّها في إطار هذه المراقبة الحسَّاسة يسائل نفسه: هل استطعت أن أبلِّغ رسالتي كما يجب؟! و هل عشت لتحقيق الهدف الذي من أجله أرسلني الله تعالى إلى الناس؟!"[24].

فداك روحي و مهجتي يا سلطان القلوب، إني أشهد في موكب الشاهدين "أنَّك بلَّغت الرسالة، و أدَّيت الأمانة، و نصحت الأمَّة، و كشفت الغمَّة، و محوت الظلمة، و جاهدت في الله حقِّ الجهاد، و هديت العباد إلى سبيل الرشاد".

ظلام يسيطر على الأرواح

ليس "النور الخالد" كتاب "رواية" و تحقيق علميٍّ محايد؛ بل هو جرٌّ للزمن الحاضر نحو زمن الأنوار، و دفع لهذا العصر وجهة خير الأعصار؛ فالمؤلِّف يسعى جاهدا أن يوظِّف جميع ملكاته و مقدَّراته، ليحمل الناس على "تجاوز الزمان و المكان"[25]، حتى يمكنهم أن ينتصروا على "ضغط الآن" و على "تفاصيل الحياة". و من ثمَّ راح يصف عهدنا هذا بأنه "عهد اهتزَّت فيه عقيدة التوحيد"، و قال عن مثل هذا العصر: "إنه يعدُّ عهدًا مظلمًا؛ ذلك لأنَّ الإيمان بالله -عز و جل- الذي هو نور السموات و الأرض، إن لم يحكم جميع القلوب، سيطر الظلام على الأرواح، و اسودَّت القلوب؛ فمثل هذه القلوب المظلمة تبتلى بقصر النظر عند مراقبة الأحداث، و تكون رؤيتها متعكرة و غير صافية، و يعيش صاحب مثل هذا القلب كالخفافيش في دنيا الظلام"[26].

ول ا يفوت فتحَ الله أن يمثِّل لهذا العهد بفتنة الشيوعية، مستشهدا بحديث للرسول الأكرم -صلى الله عليه و سلم-، و قد توجَّه يومًا نحو الشرق و قال: «ألا إنَّ الفتنة ها هنا، من حيث يطلع قَرْنُ الشيطان»(متفق عليه).

فقال: "هناك احتمال قويٌّ أنَّ الرسول -صلى الله عليه و سلم- كان يريد بهذا الحديث الإشارة إلى الفتنة التي ستظهر من جهة الشرق كبديل لأوروبا الظالمة. و كلمة "قرن" الواردة في الحديث تأتي بمعنى القرن الموجود في الحيوانات، أو تأتي بمعنى "العصر"، و أنا أرى أنَّ المعنى الأخير هو المعنى المقصود، أي أن القرن هنا يأتي بمعنى العصر أو العهد، أي أن "قرن الشيطان" معناه "عصر و عهد الشيطان" و هو نقيض "عهد النبوة". فهذا النظام الشيوعي قائم على الإلحاد و على الإباحية و على جميع المفاسد الشيطانية التي تحاول التسلل إلى القلب عن طريق النفس الأمّارة... و مع أنَّ هذا النظام الشيوعي الذي يُعَدّ الابن غير الشرعي للنظام الرأسمالي يحتضر في هذه الأيام إلاَّ أنه لا يزال يعدُّ ألد أعداء الدين و المقدسات و المواريث التاريخية، و لا يزال كابوسًا مخيفًا، و أنا أعتقد أنَّ رسول الله -صلى الله عليه و سلم- يطلق على هذا العهد الذي سيطر فيه هذا النظام الشيوعي على مساحات واسعة من العالم... يطلق عليه "العهد الشيطاني" أو "القرن الشيطاني" و يحذر أمته من هذا الوباء و من هذا البلاء"[27].

لكن، هل سجن فتح الله قلبه و عقله في وصف هذه الفتن، و راح يسوق لها أدلَّة و شواهد من "أحاديث فتن آخر الزمان"؟ أم أنَّه أشغل نفسه و أجهدها بحثا و تنقيبا عن المخرج، و عن الملاذ الآمن، عالما عاملا، مبغضا للقنوط و التقنيط، كارها لليأس و التيئيس؟

الجواب مستساغ عند فتح الله كشربة ماء بارد في ظهيرة يوم حارٍّ، و هو و لا شكَّ متمثل في العودة إلى الحقِّ سبحانه، و المجاهدة و المكابدة لأجل "حياة القلب و الروح".

حياة القلب و الروح

يقول فتح الله: "إنَّ الذين استطاعوا الخلاص من سجن الجسم، و وصلوا إلى مرتبة حياة القلب و الروح، يستطيعون عيش الماضي و المستقبل معًا و في الوقت نفسه"[28].

و القدوة في مثل هذه الحياة الطيبة هم رسل الله و أنبياؤه، و السؤال هو: "لِمَ لا يوجد سلطان الرسل في الآخرة و في الدنيا و أمام الملائكة و أمام الأنبياء في الوقت نفسه و في اللحظة نفسها؟".

أمَّا الجواب فهو: "أجل، إنه يوجد و سيوجد".

أمَّا الإجراء الذي أفصح عنه مؤلف "النور الخالد" و كشف به عن سرٍّ من أسراره، فهو قوله: "سأجعل من كلِّ ما ذكرتُه أساسًا و قاعدة لِما سأذكره؛ لأنَّ تعيين زاوية النظر إلى الأنبياء و إلى نبيّنا -صلى الله عليه و سلم- مهمٌّ جدًّا. فإن كان فهْم الأولياء و الأصفياء و الأبرار و المقرَّبين و حدسهم -دع عنك الأنبياء العظام- يحتاج إلى صفاء روحيٍّ و إلى نقاء قلبيٍّ خاصٍّ، فكيف يمكن فهْم الأنبياء في هذا العالم الماديِّ الغليظ الذي تكثر فيه الحجب و الأستار؟ إذن، فلكي نفهمهم، فإنَّ علينا التوجُّه إليهم بكلِّ استعداداتنا القلبية، و لطائفنا الروحية، و بكلِّ دقة و اهتمام و تركيز. فإن كان المطلوب فهم شخصية رسول الله -صلى الله عليه و سلم-، فإنَّ هذه الدقة و الاهتمام و التركيز يجب أن يزداد أضعافًا مضاعفة، هذا علمًا بأنَّ درجة معرفة كلٍّ منا و فهمه يتبع درجة قوة نظرته القلبية، و لكن لا أحد يستطيع أن يفهمه ككلٍّ أو يحيط به إحاطة تامَّة، فهو كما قال البوصيري:[29]

وكيف يُدرِك في الدنيا حقيقتَه

قومٌ نيامٌ تَسلّوْا عنه بالحُلُم

 

 

يا براعم الأمل!

لكنَّ فتح الله، كذلك، لا يتوقَّف به المسير في محطَّة التنظير، و إنما يواصل رحلته نحو "شباب الخدمة الإيمانية و القرآنية"، و وجهة قلوب "كلِّ مسلم، موقن" ممن بلغه أو يبلغه صوته؛ فيخاطب الجميع، بلا استثناء، خطابا روحانيا، قلبيا، صادقا، من شأنه أن يحرِّك الكوامن، و يزعزع المواجد، فتنهمر الدموع بحارا و وديانا من أعين "بكت و تبكي خشية لله"؛ و أوَّل عين يلحقها "الاحمرار"، في هذا المقام، هي عين فتح الله؛ و أوَّل "شهقة" تملأ الآفاق بكاء، في هذا الموقف الجلَل، هي شهقة فتح الله.

و في ذلك يقول، مخاطبا سامعيه و قارئيه:

"أجل، ستقومون أنتم بإهداء حقائق الدين و إقامتها في الدنيا مرة أخرى. فأنتم باقة ضوء من منبع نور عظيم أضاء أطراف العالم الغارق في الظلام، و أنشأ شجرة إيمان وارفة الظلال كشجرة طوبى ظللت بأوراقها و أزهارها كلَّ الأرجاء.

كانت كلُّ كلمة لأمَّتنا في المباحثات الدولية في تلك العهود الزاهرة بمثابة أمر. و ستقومون أنتم -بإذن الله- باستعادة تلك العهود الزاهرة و التخلص سريعًا من هذا العهد المظلم الذي نعيشه. فهذا هو ما يأمله الجميع منكم... يأمله من يعيش فوق التراب و من هو مدفون تحته. بل هذا ما يأمله منكم رسول الله محمد -صلى الله عليه و سلم- و هو يتجول بروحانيته بينكم و يربت على أكتافكم و يبتسم لكم، و إن كنتم لا ترونه أو تحسُّون به.

أنتم تستطيعون نشر الأمن و الطمأنينة فيما حولكم إن بقيتم أمناء و لم تنحرفوا عن الاستقامة. أجل، إن استطعتم تحقيق هذا، انفتح لكم قلب الإنسانية جمعاء على مصراعيه، و ستتربعون في هذا القلب كما تربَّع أجدادكم من قبل. و لكن لا تنسوا أبدًا أنَّ شرط الوصول إلى هذه النتيجة، و إلى هذه الذروة، مرتبط بكونكم أمناء للأمانة الملقاة على عاتقكم.

فإن كنا نريد أن نكون أمَّة لها وزنها و كلمتها في الشؤون الدولية المهمَّة، و نلعب دورًا بارزًا في تأسيس التوازن الدولي -حيث إنَّنا مضطرون أن نكون كذلك- فيجب أن نكون ممثلين للحق و للعدالة و للاستقامة و للأمن"[30].

وعد، و بُشرى، و شرط، و فراسة، و تخطيط، و أمل، و عمل... كلٌّ هذه المعاني الجليلة ترشح بها هذه الفقرة النورانية، المنبثقة من قلب خفَّاق، و من وجدان دفَّاق؛ و ممن لا يلوي على أحدٍ، و هو يعيد للقلب مكانته في منظومة التغيير و الإصلاح؛ من غير إضرار بالعقل، و لا إقصاء لأيِّ مصدر آخر من مصادر الحقِّ و الحقيقة، و لا تنكُّر لأيِّ منبع آخر من منابع المعرفة و العرفان؛ و هذا ما اصطلحنا عليه في بحثنا هذا بـ"هندسة القلب و الروح".

ألا ما أروعها من هندسة، تذكِّرنا بالمعمار سنان في جمال بنائه، و بالسلطان الفاتح في جلال بنيانه؛ و قبل ذلك و بعده، تربطنا بسيد المهندسين، و إمام المعماريين، و أفضل الخلق أجمعين، سيدنا و حبيبنا صادق الوعد الأمين، عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم.

و الحمد لله ربٍّ العالمين.

***

البشرية الحائرة، و دور العالم على ضوء السراج النبوي[31]

الحمد لله (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى)(الأَعْلَى:2-3)، القائلِ لنبيِّه الكريم، في محكم تنزيله الحكيم، بيانًا و تبيينًا: (وَ مَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَ الْبَصِيرُ * وَ لاَ الظُّلُمَاتُ وَ لاَ النُّورُ * وَ لاَ الظِّلُّ وَ لاَ الْحَرُورُ * وَ مَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَ لاَ الأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَ مَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ)(فَاطِر:19-22).

و الصلاة و السلام على صاحب القول الفصل في حقيقة "الله، و الإنسان، و الكون"، سيدِنا محمَّد، "شجرةِ الوجود"، و"العلَّة الغائية لكتاب الكائنات"؛ عليه أفضل الصلاة و أزكى السلام؛ مَن أُرسِل للحائرين التائهين، سراجا و نورا مبينا، ليخرجهم (مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَ كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)(الأَحْزَاب:43).

البشرية الحائرة

و بعدُ، فإنَّ أصدق وصف يليق بحال البشرية اليومَ هو وصف "الحيرة"؛ إذ بعدما عرفت قرونا من "الوهم" و"الغرور" و"الادعاء"، و جرَّبت شتى "النظريات"، و"الأيديولوجيات"، و"الفلسفات"، تيقَّنت أنها تسير مهرولةً نحو حثفها، و تستعجل عنوةً خرابها و دمارها؛ و تأكَّدت أن لا شيء من محاولاتها البائسة يستطيع اجتثاتها من براثن الشقاء و الهلاك و الدمار.

فما كان من العقلاء اليوم إلاَّ أن دقُّوا ناقوس الخطر، و ألقَوْا بالمنشفة البيضاء على أرض الحلبة، معلنين أنهم في "حيرة"، و أنهم ينتظرون مَن يُنقذهم، و يُخرجهم من حالهم إلى حالٍ أفضل و أحسن، و أكثر طمأنينة و يقينًا... و لكنَّهم للأسف لم يُسلِموا قيادهم "للوحي"، و لم يعترفوا بالإمارة و القيادة و الهداية "للأنبياء"... و على رأس الأنبياء جميعِهم خيرُ الخلق محمدٌ عليه السلام.

ألا ما أشبه حيرتهم هذه بحيرة قريش أوان كان سيد الأنام في "غار حراء"، يُصنع على أعين الله تعالى، و يربَّى في صفوف مدرسة "عشق الإله، و عشق الحقيقة"؛ هنالك تعلَّم كيف "ينكر ذاته"، و كيف "يسحق أناه"؛ ليحمل همَّ "البشرية الحائرة" فردًا فردًا، بلا استثناء، في جميع الأزمنة و الأمكنة، و لا يزال، إلى أن يُبعث يوم الحشر، فداه أمِّي و أبي، و هو ينادي بأعلى صوته: "أمَّتي أمَّتي".

و لقد أصدرت "منظمة المؤتمر الإسلاميِّ" ما عُرف بـ"إعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام"؛ و أكَّدت فيه على أنَّ دور المسلمين اليوم هو "هداية البشرية الحائرة". ورد في ديباجة الوثيقة "التأكيدُ على الدور الحضاري و التاريخيِّ للأمَّة الإسلامية، التي جعلها الله أمَّة وسطًا، أورثت البشرية حضارة عالمية متوازنة، وصلت الأرض بالسماء، و ربطت الدنيا بالآخرة، و جمعت بين العلم و الإيمان"؛ و الذي يُؤمَّل هو "أن تقوم هذه الأمَّة اليومَ بهداية البشرية الحائرة، بين التيارات و المذاهب المتنافسة، و تقديم الحلول لمشكلات الحضارة المادية المزمنة"[32].

لكأنَّ إعلان الفيزيائيين عن فشل "نظرية كلِّ شيء" قبل بضع سنين، إثر سقوط "نظرية الأوتار الفائقة"[33]؛ كان عنوانا للإعلان عن فشل الإنسان في إسعاد أخيه الإنسان، و اعترافا ضمنيا منه بالحاجة إلى مصدرٍ متجاوزٍ متعالٍ، يقول قوْلته، و يأخذ زمام التحكُّم من جديد.

و لقد هدَّت "الحيرةُ" الشرقَ و الغربَ على السواء، فعبَّر كلٌّ منهما بطريقته و حسب ظروفه؛ و أصدق عنوان لهذا التعبير هو كتاب "الإسلام بين الشرق و الغرب"، للمفكر المسلم، علي عزّت بيجوفيتش رحمه الله.

و في مقال بعنوان "طويلا بكينا"، نقرأ دلالةً معبِّرة عن تكلم الحيرة، يقول فيه الأستاذ محمد فتح الله كولن: "إنَّ الغربيَّ الذي حسِبنا أنَّ لديه مصباحَ حياتنا، كان قد ارتمى على مصطبة النعش قبلنا بكثير. إنَّه مات في ذلك اليوم الذي هبَّ فيه "نيتشه" ليُردِي الإلهَ لباسَ الموت معلنًا في وهمه أنه "مات الإله".. إنَّ الميت لم يكن سوى الغربيِّ نفسه، و إنسانِنا المسكينِ معه.. إنسانِنا الذي غرق في المستنقع من حيث ظن أنه خرج من السجن ناجيًا.. إنسانِنا العابث المتفلِّت الذي تمرد على كلِّ شيء، و أنكر كلَّ شيء"[34].

و في مقال بعنوان "تمشيط الوحش على النحو الذي يحلو به"، لـ"إنجليك دل راي"، نقرأ هذه الحسرة من تلكم "الحيرة" في قوله: "إننا نعيش حقبةً مظلمة، نختبر خلالها تناثر الممارسات و الأفكار و المعتقدات التي كانت تحدِّد إلى الآن وتيرة مجتمعاتنا"[35].

و من ثم يحسُن بنا اليومَ أن نعلن، في هذا المؤتمر العالميِّ الحاشد، و في هذه المناسبة الفريدة، من موقع هذه المدينة العريقة[36]، و في هذا البلد الضارب جذوره في الحضارة الإنسانية و الإسلامية المجيدة[37]؛ يحسن بنا أن نعلن عن "فشل الأيديولوجيات"، و عن "موت الموت" و"موت القاتل" على إثره، و عن "نهاية النهايات"، و عن ضرورة البحث عن "ما بعد الما بعد".

نعلن أنَّ الذي بقي بعد كلِّ هذه الأعاصير هو وجهُ الله الكريم: "و يبقى وجهُ ربك ذو الجلال و الإكرام"، ثم كلام الله الحكيم: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجْر:9)، و كذا رسوله الرحيم: (وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(الْمَائِدَة:67)؛ ثم إنَّ الذي لا يزال ينبضُ حياةً و حركيةً هو "الإنسان"، و"المجتمع"، "و الكون"، و"المعنى"، و "الإمكان"، "و المستقبل"، و"الخير"... فإذا ما التحمت هذه بتلك، و تعلَّقت هاته بهاتيك، صدق أن نتلو قول الله تعالى: (وَ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَ خَيْرٌ أَمَلاً)(الْكَهْف:46) و في آية: (وَ خَيْرٌ مَرَدًّا)(مَرْيَم:76).

و بيان ذلك مفصَّلا، فيما يلي:

أولا: فشل الأيديولوجيات

لو أنَّ أحدا سئل عن أزمات هذا العصر، في شتى المستويات، السياسيةِ منها، و الاجتماعية و النفسية، و الاقتصادية... و غيرِها، ثم ادَّعى أنَّ الحلَّ لها لن يكون إلاَّ في "أيديولوجية" من "الأيديولوجيات" العريقة، لاتَّخذه عامة الناس، بله العلماءُ، مسخرةً و مهزلة، و لتيقَّنوا أنه يحيا منفصما عن زمانه و مكانه، و أنه أقربُ إلى عالَم الخيال منه إلى عالم الواقع. ذلك أنَّ جميع "الأيديولوجيات" قد جُرِّبت، و لعدَّة قرون خلت، فما أورثت البشريةَ إلاَّ شقاءً و جحيمًا، و لم ينجُ من لظاها الشرقُ و لا الغرب، الأغنياءُ و لا الفقراء، المستعمِرون ول ا المستعمَرون؛ جميعُهم كان ضحيةً بشكل أو آخر لتلك "الأيديولوجيات".

كتب "جون زيغلر" رفقة "إريَل دار كوستا" مؤلَّفا بعنوان "إلى غد يا كارل، حتى نخرج من نهاية الأيديولوجيات"[38]، و الدلالة تعني بلا شكٍّ توديعَ "كارل ماركس" بأسلوبٍ ساخر، و من خلاله "الماركسية" باعتبارها "أيديولوجية"؛ كما أنَّ "فانسون بابَن" قد تحدَّث عن "نهاية الأديولوجيات و اختراع الرؤية الإيجابية للمستقبل"[39]. و ينقل الصحفي "فيكتور فييلفولت" في مذكراته، التي عنونها بـ"مذكرات الجنديِّ المكسيكيِّ المسلَّح"، أنَّ والده كان يحذِّره من كلِّ الكلمات التي تنتهي باللاحقة "isme"، يقول: "في كلِّ مراحل مراهقتي كنتُ أسمع والدي يحذِّرني من الكلمات التي تنتهي بـ"إيزم"، فإنها جميعا تُقصي، و تفرِّق، و تتسلَّل إلى الأقوال و الأفعال فتنثر فيها بذور الشقاق"[40].

فلا مكان إذن، اليومَ "للإيديولوجيات"، سواء في ذلك ما كان في حقل العلم مثل "الداروينية" (Darwinisme)، أو في مجال الفنون مثل "مذهب التعبيرية" (Expressionnisme)، أو في الاقتصاد مثل الرأسمالية (Capitalisme)، أو الفلسفة و الأبستمولوجية، مثل الأنثوية (Féminisme)؛ و في السياسة مثل الشيوعية (Communisme) و العلمانية (Laïcisme).

بل، و حتى ما يعرف في الأدبيات الإعلامية المعاصرة بالإسلاموية (Islamisme)، و منه الإسلاموي (Islamist) أو حتى "الإسلامي" عادةً؛ ما هو إلاَّ توظيفٌ مغرض يُراد منه تشويهَ صورة الإسلام، و عرضه على نمطٍ "أيديولوجيٍّ"، و بالتالي دفعُ المستمع إلى التقزُّز من النسبة إلى الإسلام[41].

ثانيا: موت الموت

أطلق نيتشه مقولته الذائعة الصيت: "لقد مات الإله" بالألمانية (Gott ist tot)، ثم تحوَّلت إلى حقلٍ للتفسيرات و التطبيقات؛ و بغضِّ النظر عن حقيقة الدلالة، هل هي إخباريةٌ أم تقريريةٌ، فإنَّ الفكر الإلحاديَّ حوَّل هذه العبارة إلى "إنجيل" و حوَّل "نيتشه الإنسان"، و كذا "إنسانَ نيتشه"، إلى إله و رمزٍ للعصر و للمعنى. و لم يتوقَّف نيتشه في هذه المرحلة، بل راح يعمل على إزالة ما أسماه بـ"ظلال الإله"، و اقتلاع كلِّ آثار الإله على الأرض؛ ليفتح المجال واسعا أمام "الإنسان الأعلى"، قصد الانطلاق نحو المستقبل بأسلوبٍ دراميٍّ.

و عن آثار هذه الفلسفة الإلحادية يقول نضال البيابي: "لاقت هذه الفكرةُ صدًى واسعا عند قائدي الثورات، و حاصدي أرواح الشعوب، و مَن مسَّه مسٌّ من جنون العظمة، كـ"هتلر" و"ماوتسي تونغ"، و للأخير مقولة شهيرة في هذا السياق، جاء فيها صراحةً و صلفا: "إذا ما كنَّا عظماءَ بما فيه الكفاية، حتى نُنهي سيطرة الإله علينا، ألا نصبحُ نحن أنفسنا آلهة. ببساطة لأننا جديرون -فيما يبدو- بذلك؟"[42].

لكن، للأسف تنطوي دلالة "موت الإله" -كذلك- على العديد من النتائج المدمِّرة، منها: "موت الحقيقة"، و"موت المعنى"، و"موت الميتافيزيقا"، و"موت الأخلاق"؛ إلى أن تنتهي بحلول "الإنسانيِّ" في "الماديِّ"، فتُخضع الإنسانَ لمعايير المادَّة، و من ثمَّ يتمُّ الإعلان عن "موت الإنسان".

يقول الدكتور أحمد عبادي: "نيتشه الذي أعلن عن موت الإله، هو في حقيقة الأمر أعلن عن موت الإنسان"[43].

و اليومَ، على مشارف الألفية الثالثة، نسجِّل بصوت جهور موت "فلسفة الموت" أو "موت الموت"، بعدما أودت بالبشرية في مهاوي لا قعرَ لها؛ ثم على إثر ذلك "مات القاتل" نفسُه، و بقي ذكره عبرةً و لعنةً في جبين القرن الماضي، لما خلَّفه من دمار و خراب، و من فتن و حروب، أبدع فيها حامل هذه الأوهام أيما إبداع، في سُبل التقتيل و التنكيل، و الاستدمار و هتك الحرمات، و لم يكن الطرفُ المقابل، قادرا و لا جاهزا للمواجهة؛ فصدق في ذلك قوله تعالى: (إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَ فَسَادٌ كَبِيرٌ)(الأنفال:73). و لقد عجزنا فلم نفعل و لم نوقف النزيف، فكانت الأرض -نتيجةً لذلك- مستنقعًا للفتن، و ساحة للفساد الكبير، ول ا تزال.

أمَّا الذي بقي بعدَ هذا الانتحار الفظيع، فهو -و لله الحمد و المنَّة-: "الحياةُ"، و"واهبُ الحياة" سبحانه، و"السراج النبويُّ" المنير؛ أي بقي "الأملُ"، و"المستقبلُ"، (وَ اللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(الصَّف:8).

ثالثا: نهاية النهايات

يعرِّف عبد الوهاب المسيري رحمه الله، في "الموسوعة" "نهايةَ التاريخ"، بأنها: "عبارةٌ تصف اللحظة التاريخية التي تسودُ فيها الواحدية (الروحية أو المادية) في بساطتها و اختزاليتها، التي تحوِّل الإنسان إلى شيء طبيعيٍّ/ماديٍّ، فلا يبقى سوى المبدأُ الواحد، الذي يستوعب الإنسانَ تمامًا، فتختفي كلُّ الثنائيات، و يختفي الزمانُ و التدافع، و يختفي معها الإنسان المركَّب، بل الحيزُ الإنسانيُّ ذاته. و بما أنَّ ما يسود في العصر الحديث هو الواحدية المادية، فإنَّ عبارة "نهاية التاريخ" تعني، في واقع الأمر، نهاية التاريخ الإنساني و بداية التاريخ الطبيعي. و في العصر الحديث ترتبط فكرةُ نهاية التاريخ باليوتوبيا التكنولوجية و التكنوقراطية و بالفردوس الأرضيِّ، و بفكرة العودة إلى صهيون"[44]. فهي بالتالي تفارق الواقع، و تتنكر للإله، و تلغي الفردوس الأخروي.

و ليس كتابُ "نهاية التاريخ" لـ"فرانسيس فوكوياما"، هو الوحيد الذي بشَّر بالنهاية، و صوَّح بها؛ و إن كان هو الأشهرُ و الأكثرُ تداولا في الإعلام و في الدوائر العلميَّة و السياسية؛ يقول "لوسيان سيف" في مقاله "إنقاذ الجنس البشري، و ليس فقط الكرة الأرضية": "لقد باتت مراكمةُ الرأسمال أكثر فأكثر من دون هدف. و ما نعيشه هو الفشل التاريخي لطبقة احتكارية باتت من دون هدف تمدينيِّ، تدَّعي أننا محكومون بـ"نهاية التاريخ" هذه، إنه "موت المعنى" المنتشر في كلِّ مكان عبر النظرة المتوحِّشة للربحية... حيث لا يمكن لأيِّ مشروع بشريٍّ أن يجد متنفَّسا له"[45].

و"نهاية التاريخ" تعبير عن نهايات أخرى منها: "نهاية الإنسان"، و "نهاية المعنى"؛ و لفوكوياما كتاب آخر هو بالأصل مقالة منشورة في مجلة "ناشيونال انترست" صيف عام 1999، بعنوان "نهاية الأنثروبولوجيا".

و اليومَ، رغم أنَّ الدوائر الرسمية لا تزال وفية لنظريات "النهاية"؛ إلاَّ أنَّ الواقع العالمي، و الإنسان/الإنسان؛ تيقنا أن لا معنى للنهاية، بالمدلول الذي طرحه قساوسة العلم في هذا العصر، ذلك أنَّ المشاكل اليومية ما انفكت تتعقَّد، و أنَّ مثل هذه الطرحات كانت خلفية للحروب الجديدة، التي خاضتها دول قوية على دول أخرى ضعيفة؛ و أننا لو واصلنا على هذه الوتيرة سوف لن نحقق "الفردوس الأرضي" كما يدَّعون كذبا و زورًا، بل سنغرق جميعا في الجحيم الأرضيِّ... إن لم يكن اليومَ، فغدًا.

رابعا: ما بعد المابعد

المصطلحات التي تبدأ بالكاسحة "post" و التي تعني حرفيًّا "بعدَ"، و لكنَّها تعني في واقع الأمر "نهايةً أو تَحوُّلا جوهريًّا كاملا" مثل: post-modern بمعنى "ما بعد الحداثة"، و post-industrial بمعنى "ما بعد الصناعي"، و post-capitalist بمعنى "ما بعد الرأسمالي"؛ و post-historical بمعنى "ما بعد التاريخ" التي تعني في واقع الأمر "نهاية التاريخ".

و أحسن وصف لمدلول "ما بعد الحداثة"، مقولة رئيس الجمهورية التشيكية، الكاتب المسرحي الشهير "فاكلاف هافل"، التي وصف فيها أمله في "عالم ما بعد الحداثة" باعتباره واحدا مبنيا على أسسٍ علمية، و لكن المفارقة فيه "حيث كلِّ شيءٍ ممكن، و لا شيء مؤكدٌ تقريبا"[46].

و مصطلح "ما بعد الحداثة"، في جلِّ استخداماته يصف الاتجاهات التي يُنظر إليها على أنها نسبية، أو مضادة للتنوير، أو المناوئة للحداثة؛ لاسيما فيما يتعلق بنقد العقلانية، أو الكونية، أو العلم. كما أنها أحيانا تُستخدمُ لوصف الاتجاهات في المجتمع الذي يُنظر إليه أنه نقيضٌ للنظم التقليدية للأخلاق.

و ليست كلُّ مقولات "ما بعد الحداثة" خاطئةً، بخاصَّة ما كان منها نقدا للحداثة؛ غير أنَّ أسلوب ردَّة الفعل الذي لازم إيقاع "ما بعد الحداثة" جعلها تنحرف انحرافا شديدا، فعوض أن تعالج الداء بالدواء، راحت تداوي الداء بداءٍ أشدَّ فتكًا؛ و هذا دليل آخرُ على الحيرة، و على العجز عن إيجاد الجواب الشافي، و الترياق المعافي، لما آلت إليه البشرية منذ أمد طويل.

مِن أين المخرج؟!

تقف البشريةُ اليومَ، بشقيها الغربيِّ و الشرقيِّ على السواء، أمام العديد من الخيارات:

إمَّا أن تواصل الكدح في حيرتها قرونا أخرى،

أو تبحث عن جواب (أو أجوبة جديدة) ضالَّة مضلَّة،

أو تهتدي إلى معنى "المعقولية"، و"الحقِّ"، و"الصواب"... و هو المأمول بحول الله تعالى.

ألَّف "مراد هوفمان" كتابا بعنوان "الإسلام كبديل"، و لم يكن في الحقيقة من نوع الكتَّاب الذين يوظِّفون الشعارات الكبيرة الرنانة، لمجرَّد التهويل، و إنما هو عالِم محترَم، له خصائصه الفكريةُ و الحضاريةُ، و صاحب منهج علميٍّ متميِّز؛ و مما جاء في كتابه: "إنَّ الانتشار العفويَّ للإسلام هو سمةٌ من سماته على مرِّ التاريخ، و ذلك لأنَّه دينُ الفطرة المنزَّل على قلب المصطفى -صلى الله عليه و سلم-"[47]. و قال في موطن آخر: "الإسلام دينٌ شاملٌ و قادرٌ على المواجهة، و له تميُّزه في جعل التعليم فريضة، و العلمِ عبادة... و إنَّ صمود الإسلام و رفضه الانسحاب من مسرح الأحداث، عُدَّ في جانب كثير من الغربيين خروجًا عن سياق الزمن و التاريخ، بل عدّوه إهانة بالغة للغرب!!"[48].

و العالم "مراد هوفمان" يعرف أنَّ الكثيرين من الداخل و الخارج على السواء، سيعتبرون هذا مجرَّد حملة دعائية، و أنَّ من المستحيل أن يعود الإسلام إلى واجهة التاريخ، ففنَّد هذا الزعم، و أشار بوضوح إلى شرط تحقُّقه، و قال: "لا تستبعد أن يعاود الشرق قيادةَ العالم حضاريًّا، فما زالت مقولة: "يأتي النور من الشرق" صالحةً … إنَّ الله سيعيننا إذا غيَّرنا ما بأنفسنا، ليس بإصلاح الإسلام، و لكن بإصلاح موقفنا و أفعالنا تجاه الإسلام"[49].

كما كتب "هوستن سميث" مؤلَّفا بديعا، بعنوان "لماذا الدين ضرورة حتمية؟!"، طبَّق من خلاله منهج النفق المغلق، الذي صنعته المادية و العلموية المعاصرة، و نهايةُ النفق هي بالضرورة موصولةٌ بالوحي الإلهي، و قد اعتمد المؤلف على "البرادايمات" و على أسلوب "التمثُّل" ليعالج موضوعه، و هو و إن لم يؤكِّد على ديانة دون أخرى، إلاَّ أنه يشترط الوحيَ و المدد الرباني لبلوغ السعادة، و بغيرهما ستستمر البشرية في شقائها الانتحاري، و في حيرتها اللامتناهية.[50]

أمَّا الأستاذ محمد فتح الله كولن، فيقول في مقالة "رسالة الإحياء"، من كتاب "و نحن نبني حضارتنا": "إنَّ أمَّتنا أوَّلا و بالذات، ثم الإنسانيةَ جمعاء، بحاجة ماسَّة إلى فكر سامٍ يقوِّي إراداتنا، و يشحذ هممنا، و ينوِّر أعيننا، و يبعث الأمل في قلوبنا، ول ا يعرِّضنا للخيبة مرَّة أخرى. أجل، نحن بحاجة شديدة إلى أفكارٍ و غايات و أهداف سامية، ليس فيها فجواتٌ عقلية أو منطقية أو عاطفية، و تكون منغلقةً أمام السلبيات التي وسمت البشريةَ أوان حيرتها، و صالحةً للتطبيق كلَّما سمحت الظروف"[51].

إذن، ثمة اتفاق أنَّ كلَّ الظروف ملائمةٌ، و كلَّ الأسباب متوفِّرة، لأن تهتدي البشرية إلى الصراط المستقيم. لكنَّ السؤال الجدير هو: هل ستتشكَّل هذه الظروف وحدها، بلا جهد و لا اجتهاد و لا جهاد؟!

هنا يأتي دور العلم و دور العالِم على إثر السراج النبويِّ، بدلالاتٍ و مراحل، هي نفسها دلالات و مراحل ما بعد "غار حراء":

العلم: (اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)(العَلَق:1).

الخلُق: (وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(القَلَم:4).

الدعوةُ (أي قيام النهار): (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ)(الْمُدَّثِّر:1-2).

التبتل (أي قيام الليل): (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً)(الْمُزَّمِّل:1-2).

الضرب في الأرض، و الجهاد في سبيل الله: (وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَ آخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ)(الْمُزَّمِّل:20).

أمَّا ذكرُ الله تعالى، و تلاوة كتابه الحكيم، فملازمٌ لكلِّ المراحل، و ذلك بموجب ما ورد في جميع الآيات و السور، و باستقصاء سيرة النبيِّ الكريم، عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم.

فالسراج النبويُّ إذن، قام على هذه الركائز، و عمادُها جميعا: "الإيمان بالله"، و "اليقين في الله"، و"صبغة الله"...

فكلُّ عالِم، مهما كان تخصُّصُه، و منصبه، و مسؤولياته، و مستواه، و مكانته... وجب عليه أن يتحرك على إيقاع هذه المعاني، و أن لا يحيد عنها قيد أنملة، و إلاَّ كان وبالا على البشرية، و زادها شقاء إلى شقائها، و حيرة إلى حيرتها.

و بناء على هذه المقدمات نحدِّد جملة من مهامِّ العالم، و أمثلة من أدواره المنوطة، على إثر السراج النبوي، و هي كالآتي:

دور العالِم

علم موصول بالسماء

تعالج "الرؤية الكونية" ثلاث علاقات هي العلاقة "بالله، و بالإنسان، و بالكون"؛ فكلُّ عِلم، و كل عالِم، لم يربط معارفه، و رؤاه، و تصوُّراته، و مفاهيمه، و مناهجه... بالخالق و بالوحي؛ فإنَّه يتحوَّل إلى "تقنيٍّ" في العلم، صاحب تفاصيل و جزئيات، قد تكون نافعة آنيًّا، لكنها ستكون مضرَّة مهلكة و لو بعد حين. و لا يُستثنى من هذا الحكمِ العلومُ الطبيعية و الرياضية و الفزيائية، و غيرها مما لا يتعامل مع الإنسان مباشرة، إذ إنه في جميع الأحوال يعود بالنفع أو بالضر إلى الإنسان وحده.

و من منطلق قوله تعالى لنبيه الكريم (اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)(العَلَق:1)، نستنتج اليوم أنَّ المخاطَب بالقراءة هم المسلمون؛ ذلك أنَّهم صاروا -و الأسفُ ملء الجوانح- أقلَّ الأمم اهتماما بالعلم، و بالقراءة، و أضعف الشعوب صلة بالفكر، و بالعقل؛ أمَّا أمرُ الله تعالى أن تكون القراءة (بِاسْمِ رَبِّكَ) فالمخاطَب -بالدرجة الأولى- اليومَ هم الذين يقرأون، و يُنتجون المعرفة، و يتبحَّرون في العلم؛ لكن بغير اسم الله، بل في الغالب اتسمت هذه القراءة بمحاربة كلِّ الأديان، بغير استثناء؛ و الانتقام من جميع القيم و الغايات؛ و في هذا السبيل ولدت نظريات "الموت"، و"النهايات"، و"الصدامات"، و "الصدمات".

و لو أنصف العلم في عصرنا، لأدرك أننا لم نخلق إلاَّ "لنعرف الله و نعرِّفه"، "فالعيش بمقتضى القصد الإلهي هو سرُّ خلقتنا"[52].

فعلى العالِم المسلم، المستنير بالوحي و بالسراج النبوي، أن يحمل على عاتقه مهمَّة تصحيح "الرؤية الكونية"، فمن واجبه إحلال "الرؤية الكونية التوحيدية" بديلا عن "الرؤية الكونية المادية الإلحادية" في الدوائر العلمية المختلفة؛ أي من واجبه إعادة العلاقة بين "الله، و الإنسان، و الكون" إلى نصابها؛ و ذلك "بإعادة التأسيس للنظرة الكوزمولوجية (Cosmologist)، (علم الكونيات) التي تقول بأنَّ الحبَّ هو علَّة خلق الكون" عوضا عن النظرة "الواحدية" التي "أغرقت العلومَ في خضمِّ المادة، و أصبحت صمَّاء عمياء تجاه جميع العلاقات الدينية و الخلقية و الميتافيزيقية، و انقلبت إلى حالة ذات بعد أحادي"[53].

و علمٌ نافع للخلق

كان نبينا الأواه -صلى الله عليه و سلم- "إذا أصبح قال: اللهم إني أسألك علمًا نافعًا، و رزقًا طيبًا، و عملاً متقبلاً"(رواه ابن ماجه).

على ضوء هذا السراج النبوي الوهَّاج، يكون الهدف من العلم هو "النافعية" لا "النفعية"، و نعني بالنافعية الأثرَ الماديَّ و المعنويَّ، الدنويَّ و الأخرويَّ معًا؛ فكلُّ علم لا يتحوَّل إلى فعل و حركية، و لا يسهم في إسعاد البشرية دنيًا و آخرةَ، و لا ينفع خلقَ الله، هو لغو و عبث و ردٌّ.

أمَّا "النفعية"، التي تعني المصلحةَ، و الأثر الآني، و المقابل المحسوبَ المباشر، فليست مطلوبةً ول ا هي مستساغةٌ. بل هي محرَّمة شرعا، مرفوضة عقلا.

لبديع الزمان أبي العزِّ إسماعيل بين الرزاز الجزري كتابٌ بعنوان "الجامع بين العلم و العمل النافع، في صناعة الحيل"؛ هو موسوعة علمية، و خزانة للاختراعات و الاكتشافات البديعة، حوت ما يزيد على خمسين اختراعا في شتى المجالات، بالتحليل و بالصور الهندسية؛ و هو مع ذلك يفتتح مشروعه الذي لا نجد له مثيلا لدى علماء العالم الإسلامي اليومَ، بقوله: "الحمد لله المبدِع صنعه في السمائيات، المودع أسرار حِكمه في الأرضيات، فهي نسخة من عالم ملكوته، و دليل قاطع على جبروته، أحمده على ما علَّم، و أستزيده من فواضل النعم، و هي مطلوبات الحكم، حمدا يماثل بعض إحسانه، و جزيل امتنانه. و الصلاة و السلام على سيدنا محمد، أشرف نوع الإنسان، و على آله و التابعين له بإحسان"[54].

و ما محنة هذا العصر إلاَّ لكون من يكتشف و يخترع، و ينفع العباد -آنيا على الأقلِّ- بالأدوية، و الآلات، و الوسائل، و التقنيات، و الأطعمة، و الأشربة، و وسائل الاتصال و التواصل... و غيرها. هو في الغالب ممن يتنكَّر للخالق، و يلحد بالله؛ أمَّا من يدعو الناس إلى الصلة بالله، و ينادي البشرية إلى الخير، فهو لا يزال -و احسرتاه- بعيدا عن التأثير المباشر، من إعمار الكون، و النفاذ إلى أقطار السماوات و الأرض.

و لن تعرف البشرية فجرها الجديد، إلاَّ على يد علماء ربّانيين، يصدق فيهم حديث المصطفى -صلى الله عليه و سلم-: "الخلْق عيال الله، أحبُّكم إلى الله أنفعكم لعياله"(رواه البخاري). فالعالم الذي لا ينفع خلق الله إذن، بجميع أنواع النفع... العالِم الذي يعزل نفسه بين أفكاره، و يحيا مثل الأرضة على صفحات أوراقه؛ و يخاطب الناس بما لا يفهمون، هو أبعد ما يكون عن السراج النبويِّ، و هو ليس مؤهَّلا و لا أهلا لينال حبَّ الله و رعايته و عنايته.

و صدق مالك بن نبي في قوله: "إنَّ الماء لا يستقي الأرض التي تعلوه". فإن أردنا أن نهدي البشرية الحائرة، على ضوء السراج النبويِّ، علينا أن نكون أرفع منها مستوًى، و أعلى منها قدرًا، و أكثر منها نفعًا، و أزكى منها صدقًا؛ و إلاَّ اعتَبرَت خطابنا مجرَّد "ادعاء فارغ"، و"كلام لا يصدِّقه العمل".

التبليغ، غاية الغايات

في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، قال رسول الله -صلى الله عليه و سلم-: "إنَّ العلماء ورثة الأنبياء. و إنَّ الأنبياء لم يُوَرِّثوا دينارًا و لا درهمًا، و إنما وَرَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر"(رواه أبو داود و الترمذي)؛ فالحديث لا يعني أنَّ العلماء يرثون المعلومات و المعرفةَ فقط، و لكنَّهم يرثون كذلك غايةَ وجودهم، و حقيقة مسمَّاهم، و تبعات رسالتهم؛ يرثون مهمَّة "التبليغ و الهداية"، و"الإرشاد و الدعوة"، و"الإنذار و التبشير".

فالعالِم اليومَ، ينبغي، مهما كان تخصُّصه، أن لا يقتصر على غايات دنيَّة، مثل الشهرة، و الحظوة، و الذكر، و المال، و المنصب؛ و إنما واجبه، اهتداءً بالسراج النبوي، أن يجعل غايته القصوى إرشاد الناس إلى الحقِّ، و وزعَهم عن الباطل...

فالتبليغ الذي يعني "الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر"، يجب أن يتخذه العالم، من منطلق عمله، مهمَّةً لا وظيفةً، رسالةً و أجرا لا منصبا و أجرة.

لكن، ينبغي كذلك، في عصرنا هذا، أن لا نقصر هذه المهمَّة في الصور المعتادة للتبليغ والدعوة، مثل الخطابة، والكتابة، والوعظ، والتدريس؛ مع أهميتها؛ وإنما الواجب يقضي -إضافةً إلى ذلك- أن ينبري العالِم لمعالجة "الرؤى الكونية"، و"تصحيح المفاهيم"، وخوض غمار حرب "مراكز التفكير"، و"اكتشاف أبعاد "التخطيط والتخطيط الاستراتيجي العميق"، ومعالجة "ما ينتج المعادي للإسلام وللبشرية من فلسفات، ومغالطات، ونظريات" من مثل نظريات "التطور"، و"صدام الحضارات"، و"موت المؤلف"، و"البنوية"، و"الفوضى"، و"الحروب الناعمة"... الخ.

فإن لم يكن العالم اليومَ دليلا رائدا لا يكذب أهله، لمثل هذه المخطَّطات التي تعدُّ بعناية فائقة، فمن ذا الذي يتكفَّل بهذا الثغر الخطير؟!

الهمُّ والاحتراق والشفقة

"عندما لا يحترق القلب شوقًا، والروحُ عذابًا، والذهنُ همًّا، فلا تتكلم!... وإلاَّ فلن تجد أحدًا يصغي إليك. عندما لا يملأُك الشعور بأنّ دعوتك هي قلبُ الكون، وروحُ الوجود، وأنها ميزانُ العالم، وصمَّام أمنٍ وأمانٍ له، فكيف تواتيك الشجاعة لمواجهة العالم كلِّه؟!"[55].

نقرأ معاني هذا الاحتراق، في العديد من الآيات القرآنية التي تعرض حال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع قومه، وهو يعلِّمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، ويرشدهم؛ وذلك بعد أن تلقَّى الأمرَ من السماء، فأخذه على محمل الإيمان، وأخلص له، وفي سبيله ارتعد وارتعش، ثم تدثَّر وتزمَّل؛ حتى نزل عليه وحيا من العليم الحكيم: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)(الْمُدَّثِّر:1)، و(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)(الْمُزَّمِّل:1).

ولم تخبُ جذوة الحسرة والهمِّ عند الرسول عليه السلام طرفةَ عين، حتى كان ربُّه الرحيم يواسيه، ويهدِّئ من روعه، ومِن ذلك قوله تعالى: (فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)(فَاطِر:8)، (وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)(النَّحْل:127)، (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)(يُوسُف:103).

ولقد كانت الشفقة سمة الدعوة عند الرسول الحبيب -صلى الله عليه وسلم-، فكان قلبه ينبض على وقع البشرية قاطبةً، يفرح لفرحها، ويحزن لحزنها؛ مِن أبسط إنسان مكانة إلى أرفعهم قدرًا؛ ولقد قال نفديه بأرواحنا ومُهجنا: "إنَّما أنا لكم مثل الوالد"(رواه أبو داود والنسائي). بل قد يحدث أن يقسو قلبُ والد على ولده، ولكنَّ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لا يغلُظ قلبُه شرو نقير. كيف لا، وهو الذي نزل فيه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)(التَّوْبِة:128).

بالله عليكم، كم من العلماء والمرشدين اليومَ يحملون "ذرَّة" من هذا الهمِّ على البشرية الحائرة؟! وكم منهم يمارِس علمه رسالةً وجهادا واجتهادا، لا وظيفا وحِرفة ومصلحة؟! بل، كم منهم يبكي ليل نهار، بالغدو والآصال، شفقة على جماهير ألقِي بها بين مخالب الذئاب وأنياب السباع، تَنهش منها، وتغتال فيها المعنى، والقيمة، والخلق، والغاية، والحقَّ؛ فتتركها تائهة حائرة، شقيَّة هائمة، تبحث عن الدليل الخرِّيت ولا تجد؟!

أليس دورُ العالم أن يكون لها ملاذا، ومرشدا؟!

أليس مِن الحريِّ على كلِّ عالم أن يكون من الناس، يحمل همَّهم، يحترق لأجلهم، ويذوي شفقة عليهم؟!

احتمال الأذى، وتحمُّله، والصبر عليه

قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأمِّنا عائشة رضي الله عنها: "لقد لقيتُ من قومِك ما لقيتُ"(متفق عليه)؛ لا شكايةً وضجرًا، ولكن إخبارًا وتربيَّةً؛ وما ذلك إلا ليتلقَّف العلماءُ والمرشدون في كلِّ زمان ومكان هذه الدلالة الملازِمة لمهمَّة العالم والمرشد، فيحتمِلوا الأذى، ويتحمَّلوه، ويصبروا عليه.

وهكذا جميع الأنبياء عليهم السلام، وجميع الأفذاذ المجدِّدين عليهم شآبيبُ الرحمة، الذين رسموا بصماتهم على صفحة التاريخ، قال تعالى: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)(الذَّارِيَات:52).

يقول بديع الزمان النورسي: "لقد افتديتُ دنياي وآخرتي في سبيل إنقاذ إيمان المجتمع. لم أذق طوال عمري البالغ نيّفا وثمانين سنة شيئا من لذائذ الدنيا... قضيتُ حياتي في ميادين الحرب وزنزانات الأسر، أو سجون الوطن ومحاكم البلاد، لم يبق صنفٌ من الآلام والمصاعب لم أتجرَّعه، عوملتُ معاملة المجرمين في المحاكم العسكرية العرفية، ونُفيت وغُرِّبت في أرجاء البلاد كالمشرَّدين، وحُرمت من مخالطة الناس شهورا في زنزانات البلاد، وسُمِّمت مرارا، وتعرَّضت لإهانات متنوِّعة، ومرَّت عليَّ أوقات رجحت الموتُ على الحياة ألف مرَّة، ولولا أنَّ ديني يمنعني من قتل نفسي فربما كان سعيدٌ الآن ترابا تحت التراب.. "[56].

أمَّا مالك بن نبي فيكتب في بعض دفاتره ومذكِّراته: "مرَّة تلو أخرى لا أجد السلام لي في هذا العالم، إنها الخيبة والشكُّ في كلِّ شيء... إذا لم تتداركني رحمة الإله فأنا ضائع جسمًا وروحًا، مثل زورق في محيط تلهو به الأعاصير العاتية، متى تعرف طريقي نهايتَها إلى الجهة الأخرى من الحياة؟ يا ربِّ، امنحني بعض الأمتار، بعض السنتيمترات، أقصِّر بها طريقي الشقية، فأنا متعب"[57].

وما يضير العلماء الربانيين الوارثين، أنهم أوذوا وصبروا، فلم يبدِّلوا ولم يغيِّروا؛ وكانوا أصحاب رسالة ومشروع وغاية؛ لا طامعي حُظوة ومكانة وأجر؛ فهؤلاء وأمثالهم يصدق فيهم أنهم استناروا بمشكاة النبوة، وساروا على درب الأنبياء؛ وما أشبههم بسحرة فرعون حين قالوا لفرعون: (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)(طَه:72-73) .

هكذا فليكن العالم، أو ليصمت!

العالِم أوان الفتن (خاتمة)

أشدُّ الناس امتحانا وزلزلةً أوان الفتن العلماءُ، ذلك أنهم مأمورون شرعا بالوقوف إلى جوار الحقِّ، من جهةٍ؛ ومأمورون من جهةٍ ثانية بأن يطفئوا تلك الفتن بالحكمة، التي غالبا ما لا يقبلها ولا يتقبَّلها الطرف الأقوى، بل والطائفتان جميعا، في بعض الأحيان؛ ولذا كان دورُ العالم أوان الفتن ابتداءً هو "فهمُها"، و"تحديدُ أسبابها الحقيقة"، والحذر من أن تتمَّ "مغالطته"، أو "التلاعبُ بمشاعره"، أو حتى "التشويشُ على مواقفه وخطابه"[58]؛ ثم إنه لا يملك السكوتَ، والتفرُّج؛ ولقد كتبَ الدكتور عبد الرزاق قسوم، يوم كانت الفتنة بالغةً عنان السماء في الجزائر، كتابًا معبرا دالا عنوانه: "نزيف قلم جزائري!"، ضمَّنه مقالا بعنوان: "علماء الجزائر، ما لهم لا ينطقون؟!".

ورغم أنَّ الشيخ أحمد سحنون -رحمه الله- (وهو من علماء الجزائر المشار إليهم بالبنان) قد ردَّ عليه بقصيدةِ "لا تُطل لومي"؛ إلاَّ أنَّ السؤالَ سيبقى عالقًا، والجوابَ سيغدو واجبًا؛ عالقًا في عنق كلِّ من أناره الله تعالى بنورِ العلم، واجبًا على كلِّ من تخذ النبيَّ الكريم أسوة وقدوة.

اليوم، والفتنُ تعصف أعاصيرَ هوجاء على جميع بلاد المسلمين؛ وهم في جميع الأحوال الضحيةُ الأولى والمتَّهم الأوَّل، لا يُنتظر الكثير من مدخل السياسة، ولا مِن باب حقوق الإنسان، ولا من أيِّ جهةٍ مهما كان شأنها؛ وإنما الطرف الوحيد الذي يملك مفاتيح الحلِّ، ويضع يده على فتيل السراج، هم العلماءُ الصالحون المصلحون، من كلِّ تخصُّص وفنِّ؛ فإن هم أدَّوا ما عليهم أمَّلنا الخيرَ للأمَّة، وإن هم تقاعسوا -لا قدَّر الله- فإنَّ الشقاء سيكون قدرها إلى أمدٍ بعيد.

وليس المطلوب من العالمِ أن يصف الدواء، ويكتب عنه، ولا أن يتحدَّث عن السراج، ويفتخر به؛ وإنما عليه واجب آخرُ هو النزولُ إلى الأرض، وحقنُ المريض بالجرعات اللازمة من الدواء، وحملُ السراج إلى المناطق المظلمة: من مدرسةٍ، وجامعةٍ، وبرلمانٍ، ومخبرٍ، وقناةٍ، وسوقٍ...وغيرها. وهذا ما يمكن أن نسميه "تحويل الفكر إلى فعل"، و"تجسيد العلم بالعمل"؛ مصداقا لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)(الْمَائِدَة:54). والله ولي التوفيق، وهو الهادي لسواء السبيل.

***

"نظرية كلِّ شيء": بين عجز الفزياء وتألق الوحي، الأستاذ فتح الله كولن نموذجا:

هل العلوم المادية أوثق أم الإنسانية؟

تهدف هذه المقالة العلمية إلى التشكيك في حكم قديم حديث، لطالما تكرَّر في مصادر علم "المناهج"، وفي مذكرات الباحثين ومقالاتهم؛ وهو "أنَّ العلوم المادية يسيرة يقينية، يمكن القطع فيها؛ أمَّا العلوم المتعلِّقة بالإنسان، فهي غير منضبطة، ويستحيل الانتهاء فيها إلى قاعدة، أو قانون، أو نظرية علمية محكَمة"؛ ولقد كان الواحد منَّا لسنوات يردِّد هذه القناعة، لِما يبدو فيها من "بداهة وبساطة" ابتداءً، ومن "استرخاء وتبرير" بالتبع. إلاَّ أنَّ العلم من طبيعته أن يتطوَّر، والمنهجَ من شأنه أن يُفرَك، وإلاَّ تحوَّل إلى معيارٍ، وإلى معتقَد، ففقد -بالتالي- وظيفته المعرفية الأبستمولوجية؛ وفي هذا الصدد تأكَّدتُ أنَّ القناعة الواردة أعلاه، ليست صوابًا دائما، وليست خطأً بالضرورة. وبيان ذلك ما يلي:

إنَّ العلوم المادية مصدرها "بشَريٌّ" صِرفٌ، أي إنَّه لم ينزل وحيٌ، ولن ينزل أبدا، يبيِّن الحقائق المادية بالتفصيل والتجزيء، وبالتدليل والتطبيق... ذلك أنَّ الأمر متروك لعقل الإنسان، بل -بالتعبير القرآني- هو موكول إلى "استطاعته" وجهده واجتهاده، قال تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لاَ تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ)(الرحمن:33). ومِن ثم فإنَّ استحالة استيعاب أسرار العلوم المادية سببُه ومرجعه "بشريَّة المصدر"، و"بشريَّة المنهج"، وحتمية "تطوُّر المدارك البشرية عبر الزمن".

أمَّا العلوم المتعلِّقة بالإنسان، منشأً وموضوعًا، ومسارًا ومنهجًا، والمسمَّاة بـ"العلوم الإنسانية" اصطلاحا؛ فهي إذا عوملت بمنطق بشريٍّ محضٍ، ووُظِّفت فيها قدرةُ "العقل البشريِّ المحدود" بلا سند ولا دليل، تتحوَّل إلى "حقل للأوهام والتخمينات"، وتؤول إلى "غابة للمفاجآت والاحتمالات"؛ ومن ثم يكون الحكم بأنها أقلُّ وثوقية ويقينًا من العلوم المادية صادقا، وصحيحا، لا غبار عليه.

أمَا، وإنَّ ميزة هذه الحقول الإنسانية الاجتماعية الفكرية الحضارية، أنَّ مصدَرها متكفَّل به مِن قِبل "خالق الإنسان والمصدر والعقل معًا"؛ أي ما يُعرف في مصادر المعرفة بـ"الوحي"؛ أمَا وإنها كذلك، فإنَّها تصبح أيسرَ على الفهم والإدراك، وألصقَ بالصدق المطلق، وأقربَ من الحقِّ الخالص، وأعمقَ في النفس بما لا يتجدَّد ولا يحيد؛ أعني بهذا "المصدرَ الربّاني"، الوارد من "أعلم معلِّم"، وممن "لا تبدو له البدوات"، "ولا تندُّ عن علمه شاردة ولا واردة"، بل إنَّ "الإرادة" و"الوجود" و"العلم" في حقِّه تعالى مترادفاتٌ متلازماتٌ لا تنفصل، قال تعالى:

(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا)(يس:82)، هذه الإرادة اللاّمتناهية،

(أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ)، وهذا الأمر والعلم الذاتيُّ الكلِّي،

(فَيَكُونُ)، وهذا الوجود والتمثُّل في خطِّ الزمان والمكان.

مِن هنا ننتهي إلى أنَّ إسناد العلوم الإنسانية الحضارية بالوحي يرقى بها إلى مصافِّ "العلم اليقينيِّ"، ويحقِّق إمكانية الوصول فيها إلى "فهم شموليٍّ"، وإلى "إدراك كونيٍّ"؛ وبالتالي يكون لها السبق على العلوم المادية الصِّرفة، التي لا ولن يردفها الوحي، لكونها موكولةً إلى اجتهاد البشر.

أمَّا إذا تخلَّت العلوم المتعلِّقة بالإنسان عن المصدر المطلق المتعالى المتجاوز، فإنها تتحول إلى "ألغام، وألغاز، ومعمَّيات"، فتتفوَّق عليها العلوم المادية؛ لإنها تستند إلى العقل، والمنطق، والتجربة، وتقع تحت "تصرُّف" الراصد والدارس والباحث.

وأزعم من خلال هذه المقالة، أنَّ الأستاذ فتح الله كولن، في نتاجه الفكري وثمراته الواقعية، كان يجتهد في استجلاء معالم "نظرية يقينية، شمولية، حضارية، كونية"؛ لا تقتصر على "جانب دون جانب"، ولا على "حقل دون آخر"، بل تطال الوجودَ البشريَّ كلَّه، وهو في هذا يستقي من نبع الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، ويسير على خطى سيدنا "ترجمان الحقائق" محمَّد عليه أزكى السلام.

يقول الأستاذ في طرق الإرشاد، تحت عنوان "الشمولية": "إنَّ الأنبياء عندما يقومون بتبليغ رسالة الله يوفون حقّ هذه المهمة بأصولها وقواعدها وطرقها الصحيحة التامَّة (...) إذ يتناولون الإنسان من جميع جوانبه، كلاًّ شاملا وغير مجزَّأ، ويقدِّمون له رسالته في إطارها الكامل دون أيِّ نقص. ومِن ثمَّ لا يبقى أيٌّ من العقل، والمنطق، والقلب، والأحاسيس، والشعور خارج أنوار الوحي، ولا يترك أو يهمل أيٌّ من هذا"[59].

وتلك النظرية الشمولية، يمكن -مجاراةً لتطوُّر المفاهيم والمناهج، وقصدًا لإبلاغ المعنى بلغة المعرفة العصرية- أن نطلق عليها اسم "نظرية كلِّ شيء" (Theory of Everything).

فهل يتمكَّن المقال من الدفاع عن هذه الأطروحة العلمية، المكوَّنة من شقين: أحدهما منهجيٌّ فلسفيٌّ، والثاني فكريٌّ حضاريٌّ؟

ذلك ما يمكن الحكم فيه إيجابا أو سلبا، بعد الاطلاع على تفاصيل الدراسة، التي أستعين فيها بالله، وأدعوه أن يريني الحقَّ حقًّا، ويهديني لاتباعه واتباع أهله. والله ولي التوفيق.

النظرية، المصطلح والمفهوم

وظَّف الباحث مصطلح "النظرية"، لا لكونه الأنسبَ والأليقَ بما يحويه هذا المقال؛ لكن لكونه الأكثر تداولا في الدوائر العلميَّة من جهة، وللنسبة التي فرضته فرضا أي "نظرية كلِّ شيء" من جهة ثانية؛ وإلاَّ فمصلطحا "البراديم، والنموذج"[60]، هما الأكثر دلالةً في سياقنا هذا؛ علما أنَّهما يتضمَّنان النسبة إلى "كلِّ شيء" أساسا، ولا حاجة للتخصيص، فلا يستساغ اصطلاحا أن يقال: "براديم كلِّ شيء" أو "نموذج كلِّ شيء"؛ وإلاَّ حصل نوع من التكرار بين مضمَر ومظهَر.

أمَّا مفهوم "النظرية" في هذا المقال، فهو يتجاوز المفهوم الفلسفيَّ، الذي طرحه "لالاند" مثلا، مِن أنها: "إنشاء تأمُّليٌّ للفكر يربط نتائج بمبادئ"[61]، فهذا التعريف يجعل النظرية في تقابل مع الواقع؛ أمَّا في بحثنا هذا فنربط العلاقة بحبل متين بين "النتائج والمبادئ" من جهة، و"الواقع وخطِّ الزمن" من جهة أخرى؛ مستندين إلى دلالة العلم في الفكر الإسلامي، هذه الدلالة التي تربط بين العلم والعمل بلا هوادة ولا توانٍ، وترفض كلَّ شكل من أشكال الفصل بينهما؛ وهو ما يتجاوز مجرَّد النظر العقلي الخالص.

والتعريف الأكثر ملاءمة للنظرية أو النموذج أو البراديم في بحثنا، هو أنها "بنية فكرية تصورية يُجرِّدها العقل الإنساني من كمٍّ هائل من العلاقات والتفاصيل؛ فيختارُ بعضها ثم يُرتِّبها ترتيبًا خاصًّا، أو يُنسِّقها تنسيقًا خاصًّا، بحيث تصبح مترابطة بعضها ببعض ترابطًا يتميَّز بالاعتماد المتبادل وتشكل وحدة متماسكة يُقال لها أحيانًا عضوية"[62] ومن ثم ينطلق صاحب النظرية من نظريته بغية تشكيل الواقع وتغييره والتأثير فيه بناء على النموذج، ومِن هنا جاءت أهمية هذه النظرية، وضرورتها، وأولويتها.. في كلِّ بناء فكريٍّ عميق.

والمنهج المتوخَّى في فهم فكرِ صاحب النظرية، أو محاولةُ تمثُّله، هو استيعاب نظريته والعمل وفقها، وبالتالي -من الناحية الوظيفية- يكتسي هذا الفكر -بفضل النظرية- صفةَ العالمية والشمولية، والتجاوز على الزمان والمكان، أمَّا إن افتقد هذا البناء النظريّ وهذا النموذج المنهجيّ، فسيتحوّل إلى حالة زمنية مكانية ظرفية، لا يمكن استيعابها، ولا إعادة تمثُّلها، فتفقد صفة الدوام والصلاحية لكلِّ زمان ومكان ضرورة.

وللنظرية أو النموذج عدَّة خصائص، منها الشمولية لكلِّ جوانب الموضوع، والقدرةُ على التفسير، وعدمُ التناقض، وهي ليست الواقع بعينه، بل هي الصورة المطلوبة للواقع...

ولا بدّ من التنبيه إلى انزلاق منهجيٍّ خطير، وهو أنَّ الهيمنة المعرفية المادية اليوم، من جهةٍ، وضعف التوجُّه التوحيدي معرفيًّا من جهة ثانيةٍ، فرَضَا علينا انهزامًا مفهوميًّا مسبقا؛ حتى إنَّنا لنستكثر على "محمد" أو "إبراهيم" أو "عبد الله" أو أيَّ اسم له صلة بالإسلام أن يكون له "نظرية"، أو ينسبَ إليه "نموذج"؛ أمَّا إذا تعلَّق الأمر بـ"جون" أو "جاك" أو "شيمون"، فهم أهلٌ لأن يُنسبوا إلى الإبداع، وتنسبَ إليهم علوم ونظريات واختراعات[63]... ولا بدَّ أولا أن نعالج هذه الظاهرة على مستوى انهزامنا الذاتيِّ، قبل أن نخاطب بها العالم الخارجيَّ[64]. وهذا ما أعتمده في مقالتي هذه، فهي تعلن بوضوح ودليل أنَّ لفتح الله كولن "نظرية" شمولية كلية متخذة من الوحي منطلقا ومصبًّا، كما أعلنتُ قبلُ أنه صاحبَ "براديم" مختلف هو: "البراديم كولن"، مع احترام العلم والمنهج، وتوخِّي الدقَّة والحذر بالطبع.

"نظرية كلِّ شيء"، التعريف والتطبيقات

"نظرية كلِّ شيء" هي نظرية فيزيائية أساسًا، وتعني "المجالَ النظري للفيزياء الذي يقدِر على تفسير جميع الظواهر الفيزيائية بشكل كامل وربطها معًا (أي كل شيء) في عالم الفيزياء" وترجمة المصطلح باللغة الإنجليزية هو: Theory of everything‏، أو اختصارا TOE، أو معادلة الكون Weltformel.

وينسب إلى آينشتين هذا "الحلم" الذي أضاع فيه -هو والكثيرون من العلماء- الكثيرَ من الوقت والجهد، بحثا عن نظريةٍ تفسِّر جميع الظواهر الكونية؛ لكنهم لم يفلحوا في النهاية. وقد كان المصطلح في البداية يُستخدم لوصف بعض النظريات العامة بطريقة ساخرة على أنها "نظريات لكلِّ شيء" لعموميتها الواسعة، مع مرورِ الوقت ترسَّخ استخدام المصطلح مع "فيزياء الكمِّ" لوصف النظرية التي تستطيع ربط أو توحيد النظريات المتعلِّقة بالتفاعلات الرئيسة الأربعة في الطبيعة (قوة نووية قوية، قوة نووية ضعيفة، قوة كهرومغناطيسية، الجاذبية).

ولقد ترشحت أربع نظريات لتكون الواحدة منها "نظرية كلِّ شيء"، كلُّها لم تفلح إلى حدِّ اليوم، وهي:

نظرية الثقالة الفائقة Supergravity

نظرية-إم M-Theory

نظرية الأوتار String theory

نظرية الأوتار الفائقة Superstring Theory

"نظرية كلِّ شيء" في الفلسفة

الفلسفة هو المجال الأنسبُ لمقالنا هذا، ولذا كان من المفيد البحثُ عن "نظرية كلِّ شيء في حقل الفلسفة"، وهذا ما تم فعلاً، فتبيَّن أنَّ ثمة "نظرية كلِّ شيء الفلسفية"، غير أنها لا تعالج إلاَّ ظواهرَ الكون، أي وكأنها نظريةٌ فيزيائية من مدخل فلسفيٍّ، ولذا عرف أنَّ أرسطو، وأفلاطون، وهيغل، ووايتهيد، وآخرون.. كانت لهم محاولات "لبناء نظام شامل للكون". كما كان هناك آخرون متردِّدون بشكل كبير حول احتمالية وجود مثل هذه النظام. ويبقى أننا لم نطَّلع على "نظرية كلِّ شيء" ذات طابع فكريٍّ حضاريٍّ شموليٍّ إنسانيٍّ؛ وهذا لا يعني نفيِ الوجود بالطبع.

إخفاق الفزيائيين، وطبيعة ذلك

أولا: العجز عن تحقيق "نظرية كلِّ شيء"

لم يفلح الفيزيائيون في بناء "نظرية كلِّ شيء" وقد أصيبوا بخيبة أملٍ كبرى، رغم أنهم جنَّدوا لها جيوشا من الباحثين؛ فمثلا، ورد في مقدمة كتاب "الكون الأنيق: الأوتار الفائقة، والأبعاد الدفينة، والبحث عن النظرية النهائية" للفيزيائي "برايان غرين"، الذي صدر بالعربية ضمن سلسلة "المنظمة العربية للترجمة"، نقرأ هذه العبارة الدالة على مدى العمل العلمي المؤسَّسي في المحيط الغربي، يقول: "إنني أقرُّ بكلِّ امتنان بالدعم الكريم لأبحاثي في الفيزياء النظرية على مدى أكثر من عقد ونصف من السنين، بواسطة المؤسَّسة القومية للعلوم، ومؤسَّسة ألفريد أ. سلون، وقسم الطاقة بالولايات المتحدة. وربما ليس غريبا أن تكون أبحاثي قد تركَّزت على تأثير نظرية الأوتار الفائقة على مفهومنا عن الزمان والمكان، وفي الفصلين الأخيرين قمتُ بشرح بعض الاكتشافات التي كان لي حظٌّ المشاركة في إنجازها. ومع أنني آمل أن يستمتع القارئ بالأمور الداخلية، فإنني أدرك أن ذلك قد يترك انطباعا مبالغا فيه على الدور الذي لعبتُه في تطوير نظرية الأوتار الفائقة. ولذلك أنتهز الفرصة لأقرَّ بفضل أكثر من ألف فيزيائي من جميع أنحاء العالم، ساهموا وكرَّسوا حياتهم لجهود تحديث النظرية النهائية للكون. وإنني أعتذر لكلِّ الذين لم يتضمَّن الكتاب أبحاثهم، ولا يعكس ذلك إلاَّ وجهة النظر التي اخترتها، وتحديد حجم الكتاب"[65].

والقارئ للمقالات المتخصصة عام 2005، المنشورة في مختلف مجلات ومواقع العلوم، وكذا المطالِع لكتاب "الكون الأنيق: الزمان، المكان، الحقيقة... كل شيء لإعادة التفكير"[66]، الذي تصدَّر قائمة الكتب الأكثر مبيعا، وكان أوَّل كتاب يحظى بهذا الحجم الهائل من الاهتمام، بعد كتاب "موجز تاريخ الزمان" لـ"ستيفن هاوكنغ"[67]، الصادر في الثمانينيات؛ هذا القارئ يلاحِظ أنها تبشِّر ببوادر "نظرية كلِّ شيء"، وأنها هي نظرية الأوتار الفائقة، وهذا سيحلُّ مشكلة تأزُّم الفيزياء، والاختلال الواقع بين قوانين الكون المتناهي في الكبر وقوانين الكون المتناهي في الصغر.[68]

أمَّا بعد عامين فقط، أي خلال عام 2007م، فقد بدا أنَّ المولودَ المبشَّر به لم يهلَّ، أو أنه ولد ميِّتا، فكتب "لي سيمون" -وهو أحد رواد نظرية "الأوتار الفائفة"- مقالات بعنوان: "لا شيء بخير في الفيزياء، فشلُ نظرية الأوتار!"[69]، وهذا بعد تجنيد العقول لأكثر من عشرين عاما كاملةً، على حساب مجالات البحث الأخرى، في الفيزياء بالخصوص، الأكثر نفعا للبشرية، والأكثر إلحاحا على مسار الحضارة. ولقد تحطَّمت جميع نظريات "كلِّ شيء" الفيزيائية على عتبة المشاكل الخمسة للفيزياء المعاصرة.

وهذا بتقديرنا يعني أنَّ الفيزياء ليس دورُها هو الوصول إلى حدِّ اليقين، ولا الاهتداء إلى الصدق المطلق، ولا تحديد المعايير للفكر البشريِّ، ولا شرح الغايات والمآلات والحقائق الكبرى، وإنما دورها الهام جدًّا يكمن في التطوير، وضمان مواصلة عجلة الفكر والعقل في السير، وموضوعها لا ينبغي أن يتجاوز المادَّة إلى الإنسان أو الخالق أو المعنى أو الغيب، فهذه جميعا ليست الفيزياء مرشحة للبثِّ فيها؛ ولذا كان من خصائص العلوم الطبيعية عموما، والفيزياء بالخصوص، ما سماه "كارل بوبر": "القابلية للتفنيد"؛ فكلَّما كانت نظرية أكثر قابلية للتفنيد كانت أكثر علمية، وكلما كانت أكثر قابلية للتصديق تحولت إلى "معتقد" (dogma).[70]

ولقد زار العالم الأمريكي "مايك سيمونس" معهد المناهج بالجزائر، وألقى فيه محاضرةً حول تبسيط العلوم؛ ومن جملة الأسئلة التي طُرحت عليه من قِبل الحضور، سؤال عن "نظرية كلِّ شيء" وعن مدى تحققها وإمكانيتها؟ فكان جوابه دالاَّ على ما ذكرناه من ضعف الإنسان وأثرِ ذلك على استحالة استيعاب المطلق، قال في ذلك: "لا أستطيع نفي هذه النظرية علميًّا، ولكن، الشيء الذي أنا متأكد منه بأنَّ ضعف الإنسان وضيقَ قدراته المعرفية، لا يستطيع من خلالها أن يفسّر كلَّ ما يحدث أمامه في الكون بنظرية بشرية واحدة. فأنا أرى بأنَّ هذا غير منطقي"[71].

ثانيا: "النوترينو" يحطِّم بناء الفزياء من لدن آنشتين

ومِن أبرز الأدلَّة على أنَّ العلوم الدقيقة ليست المرشَّح الأوَّل لليقين، أنَّها دوما تستند إلى الرياضيات لتكتسي حلّة من اليقين الرياضي، وفي ذلك يقول "هينري بوانكاري": "إنَّ العلوم تتسابق لاستعمال الرياضيات للتعبير عن نفسها ولغزو المجهول!"[72]. بل إنَّ القضايا الرياضية نفسها حين تتعلق بالمنطق التجريبي تبقى معلَّقة، وغير يقينية كليًّا.[73]

ودليل آخر على "لايقينية العلوم التجريبية"، هو أنَّ نظريةً ما قد تسيطر على الفكر البشري قرونا، وتؤتي ثمارها وأُكلها، فتبنى عليها صروحٌ، ثم يأتي من يدحضها، ويبين الخطأ فيها، فتموتُ ويولد مكانها مولود هو الأنسب لذلك الزمان، ومن ذلك "نظرية نيوتن" التي حلَّ محلَّها "النظرية النسبية"، ثم جاءت "النظرية الكمومية" لتحلَّ محل "النسبية"، ومن بعدهما برزت "نظرية الفوضى".

واليومَ، وفي الأسابيع الماضية -فقط- أشارت نتيجة تجربة أجريت في "مُصادم هادرون" العائد للمنظمة الأوروبية للبحوث النووية (CERN) إلى أنَّه بإمكان بعض الجزيئات أن تتعدَّى سرعة الضوء، الأمر الذي يعتبر من المستحيلات حسب قوانين الفيزياء المعمول بها. فقد لاحظ العلماء أنَّ جزيئات "نوترينو" (Neutrino) التي أرسلت من مقرِّ المنظمة في جنيف بسويسرا (CERN Genova)، إلى مختبر "جران ساسو" (Gran Sasso) في إيطاليا، الذي يبعد عنه بمسافة 732 كيلومترا قد وصلت قبل موعدها بجزء من الثانية.

ولقد وضعت هذه النتيجة التي تهدِّد بدحض كلِّ ما توصَّل إليه علم الفيزياء في القرن الأخير على الأنترنت، لكي يدرسها العلماء. وقد نشرت النتائج يوم الجمعة 23 سبتمبر 2011، على الساعة الثانية، في موقع جامعة "كورنيل" (Cornell)[74]، فتسارعت وسائل الإعلام لنشر الخبر، ثم توالت التجارب آلاف المرات،[75] فأعطت النتيجة نفسها، حتى إنَّ مخابرَ الولايات المتحدة لم تتقبل النتيجة ابتداء، ثم نَقلت التجربة، وأعادتها، فأعطت نتيجة إيجابية.

كلُّ هذا لا يقلِّل من قيمة النظريات العلمية الفيزيائية وغيرها؛ بل الأسف ملء الجوانح من تأخُّر أصحاب الديانات عموما، والمسلمين بالخصوص، في هذا المضمار؛[76] وإنما المقصد من هذا المقال هو إثبات أنَّ ما يبدو يقينيا في حقبة زمنية قد يصير خطأ في حقبة لاحقة، وهذه ميزة العلم، وهي متلازمة مع وظيفته؛ كما لا يمكن أن تتسم العلوم المعيارية بمثل هذه الصفة، وإلاَّ زال المعيار، وشقيت البشرية.

إخفاق الفكر الغربي، وسقوط الأيديولوجيات التوتاليرية

لو طرح اليوم عالمٌ من العلماء إحدى أبرز النظريات الغربية، على أنها الحلُّ والجواب على "سؤال الأزمة"، فبشَّر مثلا بالماركسية، أو بالنيتشوية، أو بالفرويدية...مثلا؛ فإنه سيتحوَّل إلى مهزلة، وإلى مثال للتخلف الفكريِّ؛ وما ذلك إلاّ لكون النظريات الراديكالية، الشمولية، الاختزالية، التي تقصُر الجواب على أعمق الأزمات في "سبب واحد"، أو "جملة من الأسباب" من طبيعة واحدة، متجاهلةً تركيبية الظاهرة البشرية. يقول المسيري: "تشكل أطروحات نموذج الرصد الموضوعي المادي (المتلقي) التربة الخصبة (وليس السبب الوحيد) لظهور النماذج الاختزالية التي تتسم بما يلي: التماسك الشديد - البساطة - التجانس - الواحدية - السببية الصلبة - الطموح نحو شمولية التفسير - الطموح نحو درجة عالية من اليقينية - الطموح نحو الدقة المتناهية في المصطلحات".

ولعلنا نقتصر هنا على "العلمانية الشاملة"، التي اكتسحت -ولا تزال- عقول الملايير من البشر، ولم يسلم منها حتى المشتغلون بالفكر من "العالم الديني" كما يُفترض؛ ذلك لأنَّ هذا النموذج هيمن على مناهج وأساليب التفكير بصورة فادحة. فهذا النموذج ثبت فشله، لأنه سعى إلى "فصل القيم والغايات الدينية والأخلاقية والإنسانية عن الدولة وعن مرجعيتها النهائية، وتطبيق القانون المادي/الطبيعي على كلِّ مناحي الحياة، وتصفية أيِّ ثنائية بحيث يتم تسوية كلِّ الظواهر الإنسانية بالظواهر الطبيعية، فتنزع القداسة تمامًا عن العالم، ويتحول إلى مادة استعمالية يمكن إدراكها بالحواس الخمس" (المسيري).

فيلاحظ استعمال هذه الصيغ العمومية التعميمية: "كل"، و"أي"، و"تماما"؛ فليس فيها احتمال للنسبية، وللخطأ، وللرأي الآخر؛ ذلك أنَّ هذه النظريات الشمولية عوضَ أن تبقى نظريات في مستوى "الاجتهاد البشري"، أريد لها أن تتحوَّل إلى "ديانة"، أو إلى "بديل عن الديانة"، بحيث تجيب عن "أسئلة الوجود"، وإشكالات "الفراغ الكوني"؛ لا باعتماد المصدر الموثوق (الوحي)، والعلم الموثوق (علم الخالق)، وبالواسطة الموثوقة (الرسول)؛ لكن بالتنكر لها جميعا، وبافتراض القدرة على الاستغناء عنها كلية، وبأنَّ العقل والعلم هما المصدران الوحيدان، وما سواهما هو من قبيل "الخرافة"، أو "الغيب الذي لا يصدَّق ولا يكذَّب".

ولقد أعلن فشل "الإيديولوجيات" في العديد من المحافل، وبصيغ عديدة، منها "النهايات"، على نمط "نهاية التاريخ"، و"نهاية الإنسان"، و"نهاية المعنى"...[77] ثم على صورة "الصدامات"، على نمط "صدام الحضارات"، و"صدام الثقافات"، و"صدام القيم"...[78] وقبل ذلك كانت "الصدَمات" تنخر عمق البشرية، وتعبِّر عن الفشل الذريع للنبوات الجديدة؛ ويعبِّر عن ذلك كتاب "صدمةُ المستقبل"[79].

ولقد أوصلت "النهايات" و"الصدامات" و"الصدمات" البشريةَ إلى حافة الهاوية، وازداد العنف بمسميات مختلفة، وتأزَّم الاقتصاد، واسغولت أممٌ لقوَّتها، وديست أخرى بسبب حماقاتها وضعفها، وكلُّ هذا لا ينبئ إلاَّ عن فشل الأيديولوجيات التبشيرية، والنظريات الشمولية البشرية، ولا يدلُّ إلاَّ على ضرورة البحث من جديد عن السعادة في منظومة "التوحيد" لا في صفوف "الواحدية". يقول المسيري: "إنَّ إعلان فوكوياما نهاية التاريخ هو إعلان نهاية الإنسان وانتصار الطبيعة/المادة، أي الموضوع (اللاّإنساني) على الذات (الإنسانية)، ومعناه تَحوُّل العالم بأسره إلى كيان خاضع للقوانين الواحدية المادية (التي تجسدها الحضارة الغربية) التي لا تُفرِّق بين الإنسان والأشياء والحيوان والتي تُحوِّل العالم بأسره إلى مادة استعمالية، فنهاية التاريخ هي في واقع الأمر نهاية التاريخ الإنساني وبداية التاريخ الطبيعي".

تفرد الفكر الإسلامي بإمكانية تحقيق السعادة البشرية

كتب "مراد هوفمان" كتابا بعنوان "الإسلام كبديل"، ولم يكن في الحقيقة من نوع الكتَّاب الذين يوظِّفون الشعارات الكبيرة الرنانة، لمجرَّد التهويل، وإنما هو عالِم محترَم، له خصائصه الفكرية والحضارية، وصاحب منهج علميٍّ متميِّز؛ ومما جاء في كتابه: "إنَّ الانتشار العفويَّ للإسلام هو سمة من سماته على مرِّ التاريخ، و ذلك لأنَّه دينُ الفطرة المنزّل على قلب المصطفى -صلى الله عليه و سلم-"[80]. وقال في موطن آخر: "الإسلام دين شامل و قادر على المواجهة، و له تميُّزه في جعل التعليم فريضة، و العلم عبادة... و إنَّ صمود الإسلام و رفضه الانسحاب من مسرح الأحداث، عُدَّ في جانب كثير من الغربيين خروجًا عن سياق الزمن و التاريخ، بل عدّوه إهانة بالغة للغرب"[81].

و العالم "مراد هوفمان" يعرف أنَّ الكثيرين من الداخل و الخارج على السواء، سيعتبرون هذا مجرَّد حملة دعائية، و أنَّ من المستحيل أن يعود الإسلام إلى واجهة التاريخ، ففنَّد هذا الزعم، و أشار بوضوح إلى شرط تحققه، و قال: "لا تستبعد أن يعاود الشرق قيادةَ العالم حضاريًّا، فما زالت مقولة "يأتي النور من الشرق" صالحةً... إنَّ الله سيعيننا إذا غيّرنا ما بأنفسنا، ليس بإصلاح الإسلام، و لكن بإصلاح موقفنا و أفعالنا تجاه الإسلام"[82].

كما كتب "هوستن سميث" كتابا مبدعا، بعنوان "لماذا الدين ضرورة حتمية؟!"، طبَّق من خلاله منهج النفق المغلق، الذي صنعته المادية و العلموية المعاصرة، و نهاية النفق هي بالضرورة موصولة بالوحي الإلهي، و قد اعتمد المؤلف على "البرادايمات" وعلى أسلوب "التمثُّل" ليعالج موضوعه، و هو وإن لم يؤكد على ديانة دون أخرى، إلاَّ أنه يشترط الوحي و المدد الرباني لبلوغ السعادة، و بغيرهما ستستمر البشرية في شقائها الانتحاري.

أين الأستاذ فتح الله في هذا السياق؟

لا شكَّ أنَّ بحثا معمَّقا حول "الفكر الشمولي عند الأستاذ فتح الله كولن" سيكون جديرا بالاهتمام، و حقيقا بالعناية؛ و إننا بداية ندعو الباحثين في مختلف التخصُّصات إلى هذا الإنجاز الفكريِّ العلميِّ الحضاريِّ المتميِّز؛ و سنقتصر على بعض الومضات، تمثيلا لا حصرًا، و فتحًا للشهية لا ادِّعاء للطبخة المنتهية الجاهزة.

الوحي و سعادة البشرية

عن ضرورة الوحي لسعادة البشرية؛ نقرأ للأستاذ العديدَ من المقالات، منها: "دنيا في رحم الولادة"، و"وارثو الأرض"، و"الأجيال المثالية"، و"رسالة الإحياء"... و غيرها كثير؛ و في ذلك يقول في مقال "نحو سلطنة القلوب": "ينبغي أن لا نرتاب في أنَّ ذوينا و بخاصَّة الأجيال الفتية منَّا، سيكونون في القابل القريب أصحابَ القول الفصل في سنوات الألفية الثالثة، ما لم تعصف رياحٌ معاكسةٌ فلم تبدِّد المكاسب المتراكمة حتى الآن بطريقة أو بأخرى. إنَّ أجيال اليوم المؤمنةَ السائرةَ في الطريق، المشدودةَ بالتحفُّز الروحيِّ الكامل استعدادًا لمنازلة الغبن و القهر و الظلم الذي أصابها منذ قرون، يزفون بتحفُّزهم هذا من الآن ببشائر مهمَّة عما سيتحقَّق من تجديدات أساسية في جميع طبقات المجتمع في مطالع الألفية الثالثة. و حينما يحلُّ الموسم سيؤتي الإيمانُ و العزم و الثبات و عشقُ الحقيقة و الفكرُ المنهجي بثماره -علمًا بأنَّ كلا منها في حدِّ ذاتها طاقة كامنة بالقوة- و سنعيش "انبعاثات عديدةً" تحتضن وحدات الحياة كلها"[83].

إنَّ "التوتُّر الروحيَّ"، أو ما أسماه فتح الله في هذا المقال "بالتحفُّز الروحيِّ"، هو سرُّ الحركية، و هو الشعلة التي لو لامست محرِّكا (قلبًا) به طاقةٌ و هواءٌ؛ فإنَّه لا شكَّ سيحترق شوقًا و عشقًا، و سيبلغ بالمركبة آمادًا بعيدة، و لسوف يبلِّغها مقاصد سعيدة، في الدنيا أولا، ثم في الآخرة ثانيا. أمَّا مَن فقد ذلكم التوتُّر و التحفُّز الروحيَّ؛ أو كان متوتِّرا ماديًّا و مصلحيًّا ليس إلاَّ، شأن أصحاب الحضارات المادية الإلحادية؛ فإنَّه سيتحرَّك، و سيبني، و سيُنجز؛[84] لكنَّ حركته و بناءه و إنجازه لن يعدو المظاهر القريبة، وهو ولا ريب آيلٌ إلى هلاك و دمار، إن لم يكن اليوم فغدًا. و هذا مؤدَّى قول السحرة لفرعون: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَ الَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)(طَه:72) ".

المنجزات العلمية

أمَّا عن زهو العالَم المعاصر بالمنجزات التقنية، فيقول فتح الله: "إنَّ هذا العالم يحاول أن يسلِّي نفسه بالمنجَزات العلميَّة و التكنولوجية هنا و هناك، و أن يُسرِّي عن غمِّه بالثروة و الراحة أحيانا. لكن من البدهيِّ أنها لن تَمنح الإنسان سعادةً مستمرَّة أبدا، و لن تلبِّي رغبة البقاء و الخلود المكنونةَ في أعماقه. و لذلك، ما من شيء يتخذه دواء و علاجًا إلا و يزيد في قتامة أفق الأمل الإنساني و يضيف بؤسًا إلى بؤسه الروحي. فهذا العالم يتباهى بالعلم و التكنولوجيا إزاء الفراغ و الاكتئاب الذي أوجده في الحياة الاجتماعية نتيجة لخطئه العظيم في تحديد نقطة الانطلاق.. و لْنتركْه يسلِّي نفسه و يلهو باللذائذ و الأذواق، أو يتطلع ببصره إلى أعماق الفضاء في حين أنه يعاني من افتقاد الروح و المعنى الذي ضيعه في قلبه، مُهدِرا العمرَ خلف ضالته في وديان أخرى"[85].

و نسجِّل تنبيهَ الأستاذ إلى "الخطأ في نقطة الانطلاق"، أي بلغة "علم المناهج" يكمن الخطأ في اعتقاد "المسلَّمات"، و"البدهيات"، و"اليقينيات" أي ما عبَّر عنه بـ"افتقاد الروح و المعنى". و بلغة "نظرية المعرفة" نقول: "يكمن الخطأ في الرؤية الكونية" و في "النماذج الإدراكية". فهو يقول في مكان آخر: "بدهي أنَّ نظرياتٍ بدت ثابتةً ومتينة، تترك مواقعها إبان هذه المناقشة و المساءلة لتحلَّ محلها آراء جديدة مختلفة، فتَرحل مُسلّماتٌ كانت تصان في حدقات العيون باسم العلم، متهاويةً واحدة بعد أخرى، لتحل محلها مسلماتٌ أخرى تحط واحدة بعد أخرى"[86].

ولا أدلَّ على هذا من انسحاق الأيديولوجيات، واحدةً تلو أخرى، بين أضراس العصر الحاضر، بما يحمل من أزمات و حروب و خلافات، دلَّت دلالة واضحة أنَّ المنطلق خاطئٌ، و أنَّ البداية منحرفة انحرافا خطيرًا.

و لقد ألَّف العديد من الكتَّاب و المفكِّرين، الغربيين بالخصوص، بحوثًا و دراسات تصف و تحلِّل هلاك الأيديولوجيات والفلسفات، من ذلك مثلا: "نهاية الأيديولوجية" لـ"دانيال بال"، الذي لاقى إقبالا و صدى بالغا في الدوائر العلمية العالمية.

خلافة الله في الأرض

يحاول الأستاذ أن يعرض ملمحا هامًّا و خطيرا، و هو أنَّ الإنسان "سواء باعتباره عالما" أو "باعتباره موضوعا للعلم"، وظيفتُه الأساسية هي "خلافة الله في الأرض"، فإذا ما استوعب هذا المفهوم، و ارتكز عليه وجب عليه "أن يكون عاشقا للحقيقة، و حريصا على العلم و التحرِّي، و شغوفا بالبحث و اكتسابِ المهارة في كلِّ مجال. لكن ينبغي أن يتقي المؤمن ويحذر من الاتكاء على المصادر الأخرى في الأمور المتعلقة بالنُّظُم العَقَدية و الفكرية، و الموضوعاتِ المرتبطة بالكتاب و السنة و بكل ما يتعلق بتمثُّل الرسول -صلى الله عليه و سلم-، و طرائقِ التحليل والبحث في السيرة و تاريخِ الإسلام عموما، و الفنِّ و الأدب و نحو ذلك، لأنَّ الذين أقاموا بنيانهم الفكري على معاداة الإسلام، و نظروا إلى الإسلام و كأنه خارج الوحي السماوي، لا يُرجى منهم التصرفُ بحسن النية و طلبِ الخير للمسلمين و تمنِّي التقدم لهم. أمَّا العلمُ و التكنولوجيا -و هما خارج إطار ما ذكرناه- فقد ظلت الأيدي تتناقلهما بين الأمم في الماضي، و ستستمر المبادلة فيهما مستقبلاً، و تنتقل أمانةً و وديعةً في أيدي حائزيها. فالعلوم و التكنولوجيا ليست حكرًا على دين أو أمَّة. لذلك، تستطيع كلُّ أمَّة سليمةِ المشاعر و الفكر و المعتقدات، منتصبةٍ على ساقيها بثبات و رسوخ، أن تعتصر هذه العلوم الصِّرفة و تقطرها في روحها، فتجعلَها صوتَ قلبِها ونَفَسَه، و وسيلةً تُوصِل البشر إلى الله تعالى"[87].

يمكننا أن نطالع هذه الفقرات مطالعة نصية حرفية جافة، أو مطالعة لغوية أدبية فنية؛ غير أنَّ القراءة المعرفية تجلِّي لنا دلالات عميقة لا حدَّ لها، و من ذلك: اعتماد حكم "الوجوب" الذي هو مِن الأحكام الشرعية المترتب عليها آثار دينية؛ فالأستاذ يحكم بـ:

وجوب عشق الحقيقة.

و وجوب الحرص على العلم و التحري.

و وجوب الشغف بالبحث.

و وجوب اكتساب المهارة في كلِّ مجال.

و هو ما يعبِّر عنه المفكِّر الأديب عباس محمود العقاد بعنوانه الدال "التفكير فريضة إسلامية"؛ و لا شكَّ أنَّ مصدر هذا الحكم هو القاعدة الأصولية: "ما لا يتم الواجب إلاَّ به، فهو واجب"، فعزَّة المسلمين، و نصرةُ الإسلام، و ظهورُ دين الله تعالى، و سعادةُ بني البشر... كلُّ ذلك مقصد للشارع، لا يتمُّ ول ا يتحقَّق إلا بالأحكام التي أوردها الأستاذ، لو أنها أخذت بجدية، و لم تقرأ قراءة "استرخائية اختيارية اعتيادية".

و نقرأ في الفقرة أعلاه، حول "مصادر المعرفة" كون "الوحي" هو المصدر في كلِّ ما من شأنه أن يعالج "النظم العقدية و الفكرية"، أو كلِّ ما يعالج حقيقة الكون، و معنى الإنسان، و المصير، و الغيب... فكلُّ ذلك لا يمكن للعلوم الدقيقة أن تبثَّ فيه، و لا حتى أن تدلي بدلوها؛ فهي ليست مرشَّحة لذلك.

ثم يدخل الأستاذ مفهوما "عقديا" في نظرية المعرفة، و هو "النيّة"؛ فمن ساءت نيته ساء مصدره و مورده، و لم ينتظر منه الصدق، و لم يكن أهلا ليتعلَّم منه؛ يقول: "إنَّ الذين أقاموا بنيانهم الفكري على معاداة الإسلام، و نظروا إلى الإسلام و كأنه خارج الوحي السماوي، لا يُرجى منهم التصرفُ بحسن النية و طلبِ الخير للمسلمين وتمنِّي التقدم لهم."[88]

و لو أنَّك -اليوم- في محفل علميٍّ أكاديميٍّ متخصِّص، حتى في العديد من الجامعات العربية، ربطت بين النية و المعرفة؛ لوجدت الكثير من الدارسين يقفون أمامك محتجين أنَّ النية لا تقاس، و هي "ذاتية"، و لا تؤثر على العلم، و ما دخلها في البحث العلمي؟ و دليل ذلك العشرات من المصادر "في منهجية البحث العلمي"، التي كتبت باللغة العربية، من قبل باحثين من مختلف التخصصات، قلَّ منهم من يدرج النية في "شروط الصدق المعرفي"، و لقد أبدع المسيري رحمه الله حين فنَّد خرافة "الذاتية  و الموضوعية" بالبديل المعرفي، المعنون بـ"التفسيرية"؛ فالنية أكثر تفسيرية من أيِّ معطى آخر في مسار العلم اليوم، و لا يعنينا -كما نقرأ عند الأستاذ- أن تتقبلها الدوائر الرسمية، أو ترفضها. و نحسب هذا من إبداعات الأستاذ فتح الله كولن؛ كاشفا عن صفاء نيته و سريرته.

و في السياق نفسه تأتي "سلامة المشاعر و الفكر و المعتقدات، و الثبات و الرسوخ" لتمكِّن الأمَّة من أن "تعتصر هذه العلوم الصِّرفة و تقطرها في روحها، فتجعلَها صوتَ قلبِها و نَفَسَه، و وسيلةً تُوصِل البشر إلى الله تعالى".

أمَّا "العلم و التكنولوجية" في رأي الأستاذ، فهما محلٌّ لأنْ يتمَّ "تناقلهما بين الأمم في الماضي"، و"المبادلة فيهما مستقبلاً"، و"الانتقال أمانةً و وديعةً في أيدي حائزيها". و الخلاصة أنَّ "العلوم و التكنولوجيا ليست حكرًا على دين أو أمَّة".

فهذه الدلالات المعرفية الواردة، تؤكِّد -بما لا يدع مجالا للشكِّ- أنَّ الأستاذ يرسم الفوارق بين "العلوم اليقينية" التي مصدرها الوحي، و صبغتها "صدق النية"، عن العلوم الأقل يقينية، التي هي ملك لكلِّ من يُعمل فيها عقله؛ و من ثم فهو يشير إلى شمولية و كلية الأولى، و إلى إنسانية و نسبية الثانية؛ وهذا ما نحاول إثباته من خلال ورقتنا هذه.

الصراع الموهوم بين العلم و الدين

في ذات السياق يحلِّل الأستاذ "سبب شقاء البشرية"، و سبب عجزها عن اكتشاف الحقيقة ناصعةً، سواء في الغرب ابتداء، أم في الشرق ولوعا و أثرا، فيقول: "و المؤلم أنَّ فلسفة العلم في أوروبا -و على نقيض المرونة في عالمنا الفكري- قد أوقعت الغربَ كله في صراع دائم بين العلم و الدين لأمور و أوضاع خصوصية، فخَلَّفَ ذلك انفصامًا بين العقل و القلب. و هذا هو السبب الرئيس للمعضلات المتتابعة منذ عصور في النُّظم الغربية كلِّها. بل لقد تفاقمت الأزمة من مخاصمةِ جبهة العلم و الفلسفة للدوغمائيات الكنسية، إلى مخاصمة "المفاهيم" الدينية كافة بمرور الزمان... فكأنَّ العلم و الفلسفة حاميةٌ و مدافِعةٌ عن الإلحاد. و قد أصاب -للأسف الشديد- الفكرَ الإسلاميَّ البريء، غبارٌ من هذا العداء ضد الأديان كلها، إذ عُرِّض لأشنع ظلمٍ و أبشعِ غبن، و وُضِع في قفص الاتهام مع الكنيسة التي هي المعنية في الأصل بهذه الخصومة. انقلبت هذه الحركة المعادية لدوغمائياتِ تلك التنظيمات التي ظهرت بمظهر الدين، والمنطلقةُ في بداياتها من الحرية الفكرية والعلمية.. انقلبت بمرور الزمان إلى معاداة الله و الدين و التدين، ثم إلى تحمسٍ في أرجاء العالم كله لإسكات المتدينين و إحباطهم وتضييقِ الخناق عليهم، بل إزالتِهم من الوجود تمامًا. و مع أنه لم يكن للعالم الإسلامي مشكلة البتَّة مع العلم أو حريةِ الفكر، و لكنَّ زمرًا من أعداء الدين تغاضوا عن هذه الحقيقة الفارقة و اتخذوه غرضًا لمراميهم العدائية الدنيئة مساوين له بالمسيحية الكنسية."[89].

الصراع الدائم بين العلم و الدين كان منشأه انحرافات في الكنيسة، غير أنَّ الذين حاربوا الانحرافات كانوا "ثوريين"، فعوض أن يصفُّوا مجاري المياه، راحوا يجففون المنابع كلَّها، فحاربوا كلَّ "وحي" و كلَّ "دين" و كلَّ "إله"... يقول كارل ماركس: "الدين تنهيدة الكائن المضطهَد، قلبُ عالم لا قلب له، و روح شروط بلا روح. إنه أفيون الشعب"، أمَّا "جان ميليه" فيقول: "سأختم بالقول بأني أرجو الله الذي تثير تلك الطائفة -أي المسيحيين- سخطَه أن يتلطَّف، و يعود بنا إلى الدين الطبيعيِّ، الذي ليست المسيحية غير عدوِّه الصريح" و ما الدين الطبيعيُّ سوى العلم طبعًا، و يفسر "كلوت" ذلك بقوله: "ما من إله آخر غير الطبيعة".

هذا الصراع أغرى المنتصِر، ومنحه "زهوا" و"غرورا"، حتى ظنَّ أنه يستطيع أن يقول أكثر مما يعلم، أو يمكنه أن يسحب ما يعلم ليشمل ما لا يعلم؛ و إلاَّ فما الذي يبرِّر -مثلا- آراء "ستيفن هاوكينغ" -الكوسمولوجي و الفزيائي- عن الله، و عن الغيب، في مثل قوله: في كتابه الأخير "التصميم العظيم": "إنَّ العلم بات قادرا اليوم على القول إنَّ الله لم يخلق الكون، و إنَّ الانفجار الكبير لم يكن سوى عواقب حتمية لقوانين الفيزياء". و ما هذا الصلف سوى ادعاء -لا مبرر له- أنَّ العالِم هو صاحب القول الفصل في "كلِّ شيء"، و هو القادر على اكتشاف نظرية تفسر "كلَّ شيء" في الوجود، ليس الماديَّ فقط، بل و المعنويَّ كذلك. و ليس المحسوس فقط، بل و الغيبي أيضا.

و في رأينا، استطاع فتح الله أن يضع اليد على الجرح، بحديثه عن "ديكتاتورية العلم" أو بالأحرى، "حين يحترف العالم الظلم باسم العلم"، و يقول عنها إنها تحولَّت إلى احتراف: "معاداة الله و الدين و التدين، ثم إلى تحمُّسٍ في أرجاء العالم كلِّه، لإسكات المتدينين، و إحباطهم، و تضييقِ الخناق عليهم، بل إزالتِهم من الوجود تمامًا"[90]. و لكم قرأنا من كتب حول "ديمقراطية العلم"، و عن "الحرية في العلم"، و عن أنَّ "الاستبداد وليد الدين لا العلم"؛ و ها هو فتح الله يكشف النقاب عن العكس، و هو كذلك لا ينفي أن يولد التعصب و الظلم من رحم الدين، حين ينحرف أهله به.

و هذه خطوة أخرى في نظرية المعرفة، من منظور "أصيل" لا "تأصيلي كما يسمَّى أحيانا"؛ لعلَّ فتح الله هو أحد أبرز روَّادها، لو تمكننا من دراستها، و التنظير لها، بعقلية منفتحة، و جهد لا يقتصر على الفرد، و لكن يتجاوزه إلى "جماعة علمية"، بكل ما يعنيه المصطلح من دلالة.

الرؤية الكونية، و مصدر الحقيقة المطلقة

حين يتمُّ الحديث عن "الرؤية الكونية"، يشار أساسا إلى مكوِّنات ثلاث هي "الله، و الإنسان، و الكون"، ثم يتم التركيز على "التصور، و الحكم، و الموقف" على هذه العناصر، و لقد كان الحديث عنها قبلُ يحشر في الدوائر الرسمية ضمن "ما وراء العلم"، أو "في حقول الفلسفة" على الغالب؛ أمَّا اليوم، فبفضل جهود علمية متكاثفة، و بسبب إخفاقات تجزيئية إقصائية متوالية، اضطرَّ المنصفون أن يعودوا إلى الجذور، و إلى بواطن المشكلة و الأزمة، فوجدوها في التصوُّر، و الحكم، و الموقف من "الله، و الإنسان، و الكون"؛ أي في "الرؤية الكونية" و لا ريب.

في كتاب "و نحن نبني حضارتنا"، يعرض فتح الله لهذه المسألة بعمق، لكن دون أن يسميها باسمها المعروف مباشرة، فيكتب مقالا بعنوان "الله، الكون، الإنسان.. و النبوة"، و يمكن تفسيره بعبارة "النبوة و الرؤية الكونية"، و مما ورد فيه: "إنَّ قراءة الوجود و الأحداث قراءةً جيدة و تفسيرَها تفسيرًا صائبًا، و كذلك الحفاظ على الموازنة بين الإنسان و الكون و حقيقةِ الألوهية، لهي من أهم جوانب الأعماق النبوية و من أرقى مميزاتها.. فإن الإدراك العميق للوجود كـ"كلٍّ"، و الفهمَ التام لتجلي الأشياء -التي بعضها نماذج للبعض الآخر- في صورتها العمومية، و لقوانين الوحدة التي هي ذاتُ صفةٍ كونية و محيطة بالموجودات... كلُّ ذلك إنما تَيسَّرَ للأنبياء وحدهم، و على رأسهم حضرة روح سيد الأنام -عليه أكمل التحايا- و هذا أبهر معجزاتهم قاطبة. و إذ لا زالت البشرية تتهجى في أيامنا هذه حروفَ الحقائق المتعلقة بالإنسان و الكائنات و ما وراء الطبيعة مع توسعها العلمي و تقدمها التكنولوجي، فإنَّ الأنبياء وقفوا مليا -و بجد- على هذه الحقائق منذ آلاف السنين، و قالوا بالتمام لأممهم ما ينبغي أن يقال في شأن الرجوع بالأشياء لصاحبها؛ فبعضهم أجمل و بعضهم فصَّل، و ذلك بجَهازهم الخارق للعادة، و مكانتهم الخاصة عند الحق تعالى، و التبليغاتِ المتوالية من الماورائيات"[91].

لا تخطئ القارئَ النزعةُ "الكونية الشمولية" في هذا النصِّ، إذ الألفاظ و العبارات دالة على ذلك، منها، ألفاظ مثل: "قراءة جيدة... تفسير صائب... الموازنة... الإدراك العميق للوجود ككلٍّ... و الفهم التامَّ لتجلي الأشياء... في صورتها العمومية.... و قوانين الوحدة... و صفة كونية محيطة بالموجودات....الخ". و دلالة هذه العبارات أنَّ "تفسير كلِّ شيء، و بيان كلِّ شيء، سواء أتعلق ذلك بالإنسان، أم بالكون، أم بالحقيقة الإلهية... لا يتأتى إلاَّ للوحي، و للأنبياء، و لا يمكن أن يدركه إلاَّ من ارتشف رشفة من نبع الصفاء الأبديِّ، و اغترف غرفة من نهر الحقيقة النورانية؛ و هل يمكن أن تكون هذه سوى "نظرية كلِّ شيء" بدلالتها المعرفية التوحيدية الشمولية، لا بمعناها الأبستمولوجي المادي الواحدي؟!

ليس المقصد التهوين من شأن العلم المادي و التقنية

يشدُّني إلى فتح الله تلكم القدرة على الموازنة و التوازن، فهو بأيِّ مبرِّر كان، لا يميل إلى الغلوِّ، و لا يقبل الأحكام الجزافية المطلقة، و من ذلك تصحيحه لخطأ قد يقع فيه "الطالب، و غير المتمرِّس"، أو "العالم بالتراث الفقهيِّ، مع جهل بالتراث العلميِّ"، من احتقار ما توصَّلت إليه البشرية من علم، و    من تقدُّم تقنيٍّ و تكنولوجيٍّ لا غبار عليه؛ و في ذلك يقول: "و أنبِّه هنا إلى أني لا أقصد بما قلته التهوينَ من شأن العلم و ثمراته، أو الانتقاصَ من أهمية المباحث العلمية؛ بل نعتقد أنَّ العلم و ثمراته منظومةُ قيمٍ هامة جدًّا و تستحق التوقير و التقدير"[92].

و في ذات السياق يقول محمد مهاتير: "صحيح أنَّ الإسلام يطلب من المسلمين أن يدرسوا العقيدة، و لكنه يطلب منهم أيضا أن يدرسوا كلَّ المعارف. إنَّ إدارة الظهر للمعارف الأخرى لن يجعل المرء أكثر إسلاما".

فما هو المقصد المعرفيُّ المنهجيُّ، إذن؟

يجيب فتح الله: "المقصود هو التذكير إلى مصدرٍ للعلم لا يُلتفت إليه اليوم، مع أنه أصح المصادر في التعبير عن حقيقة الإنسان و الوجود و الخلق، و أكملُها و أشملها، مع تنزهه عن الخطأ فيما يقوله و يرشد إليه... ألا و هو مصدر "النبوة" التي احتفظت بنداوتها أبدًا، باستثناء التحريف الحاصل في بعض الكتب السابقة... إنَّ العلوم المعاصرة اليوم قد تكتشف -من منظور كليٍّ و بتقويم شمولي- أمورًا مهمَّة تتعلَّق بالنظام و الانسجام و الحركة في الوجود و الحوادث، و نحن نستقبل ذلك بالتقدير و التوقير؛ لكنَّ جمعًا من المجهَّزين بجَهاز خاصٍّ، قد أعلنوا في أقدم العصور و بواكير الزمان -و لو بشكل إجمالي- هذه المعلوماتِ و التفسيرات التي توصَّل إليها العصرُ باستخدامِ أعظم التكنولوجيات. فإذا كان هناك قسم من الجهات العلمية لم يلتفتوا إليها أو لم يوقروها التوقير اللائق، فإننا نرفع عند ذاك أصواتنا -في حدود أدبنا- فوق أصواتهم، و نجهر بأعلى صوتنا بما نراه حقًّا"[93].

فنظرية كلَّ شيء، من وجهة نظر هذا البحث، و من مدخل الأستاذ فتح الله، لا تعنى بـ"تفسير كلِّ شيء" كما في بعض الطرحات العلمية الغربية؛ غير أنها تعنى بالبحث عن المصدر، أو المصادر، التي تعبر عن الحقائق بصورة شمولية كلية، مصدر لا يشوبه تحريف و لا يعتريه تزييف، ولا يلحقه خطأ و لا يناله خطل، و ما ذلك المصدر سوى "الوحي" أوان نقائه، وحين لا تعبث به أيدي الناس، و عندما لا تشوِّه محياه بحماقاتها و نفاقها و تصرفاتها الرعناء؛ و هذا مؤدَّى قول الأستاذ: "المقصود هو التذكير إلى مصدرٍ للعلم لا يُلتفت إليه اليوم، مع أنه أصح المصادر في التعبير عن حقيقة الإنسان و الوجود و الخلق، وأكملُها و أشملها، مع تنزهه عن الخطأ في ما يقوله ويرشد إليه... ألا و هو مصدر "النبوة" التي احتفظت بنداوتها أبدًا".

وظيفة العلم، و نظرية كلِّ شيء

هل ثمة وظيفة للعلم سوى تمكين البشرية من السعادة، و الرخاء، و الطمأنينة الأبدية، لا الظرفية فقط؟

يحلل الأستاذ فتح الله وظيفة العلم، من مدخل معرفي، و يشترط في تحقيقها "تفسير الوجود بفهم شمولي ينتظم كلَّه و جزءَه"، أي الشرط هو "نظرية كلِّ شيء" باعتبار سعة الفهم، و نقاء المصدر، لا بغرض التفصيل في كلِّ شيء بوحداته؛ ثم إنَّ تلكم الوظيفة، ما هي إلاَّ "السعادة"، و"التوازن بين كلِّ الأشياء و تناسبها"، و"ربط كلِّ المخلوقات بخالقها"، و"النجاة من الوقوع في التناقض الداخلي" أيا كان نوعه.

يقول فتح الله: "فالسعداء هؤلاء، لهم نظر خاص إلى الوجود و ما وراء الوجود؛ فهم يطَّلعون على كلِّ شيء بأنوار البصيرة، و يقوِّمون الأشياء و الأحداث في الدائرة التي وضَعَتْها فيها قدرة الخالق تعالى، و يتناولون كلَّ شيء بحقيقته في نفس الأمر (بحقيقة جوهره)، و إذ يفسِّرون الوجود بفهم شموليٍّ ينتظم كلَّه و جزءَه، يعتنون بتوازنِ كلِّ الأشياء فيما بينها و تناسُبِها، و بروابطها بالخالق تعالى، فلا يقعون أبدًا في تناقض داخليٍّ. و لذلك، هؤلاء وحدهم أفلحوا مدى الدهر في النظر الصائب و الفكر الصائب و التعبير الصائب، بشأن حقيقة الإنسان و الكائنات و الألوهية؛ فهم وحدهم استطاعوا أن يبيِّنوا التوحيد بجميع ضرورياته و لوازمه، و هم وحدهم استطاعوا أن يبينوا الموازنات السليمة بين الأسماء الإلهية و الصفات السبحانية و الشؤونات الذاتية مع الذات الإلهية... و كذا هم وحدهم عبروا تعبيرًا صائبًا عن خصوصياتِ دائرةِ الألوهية و دائرة الربوبية باعتبارها تجلياتٍ مختلفةً لنبع واحد. و لولا أَنْ تجلت الإرادة الإلهية بالإحسان في إرسال الرسل، لعجزتْ أخصبُ الأدمغة -على توالي العصور و الدهور و مع أعظم الهمة و الجهد- عن تحصيل مثل هذه الحقائق قطعًا و بتاتا، بل عجزُها ظاهر للعيان بواقع الحال!"[94].

و لقد ردَّ محمد باقر الصدر، في كتابه "اقتصادنا"، على الذين ادعوا أنَّ العلم على صورته الوضعية، كفيل بإسعاد البشرية، ففنَّد هذا الوهم قائلا: "و يتردد على بعض الشفاه: أنَّ العلم الذي تطور بشكل هائل كفيل بحلّ المشكلة الاجتماعية.. إنَّ هذا الإنسان الذي سجَّل في تاريخ قصير كلَّ هذه الفتوحات العلمية، و انتصر في جميع معاركه مع الطبيعة لقادر بما أوتي من علم و بصيرة، أن يبني المجتمع السعيد المتماسك، و يضع التنظيم الاجتماعي التي يكفل المصالح الاجتماعية الإنسانية، فلم يعد الإنسان بحاجة إلى مصدر يستوحي منه موقفه الاجتماعي سوى العلم الذي قاده من نصر إلى نصر في كل الميادين". ثم قال: "و هذا الادعاء في الحقيقة يكشف الجهل بوظيفة العلم في الحياة الإنسانية، فإنَّ العلم و أساليبه ومناهجه ما هي إلاَّ أدوات بحثٍ و وسائل تحليل، إنها ليست إلاَّ أداة لكشف الحقائق الموضوعية، سواء في الظواهر الطبيعية، أو العلوم الإنسانية". فسعادة البشرية إذن لا تتأتَّى من باب العلم، و لكنها تتنزَّل من سماء الوحي.

الإسلام كلّ... كلٌّ يستحيل تجزُّؤه

مما تقدم نستنتج أنَّ فتح الله كولن يدافع عن أنَّ "الحقيقة" في كلِّيتها و شموليتها، لا تصدر إلاَّ من نبع التفسير الديني، و لا تكون إلاَّ من مدرسة الأنبياء عليهم السلام، المعلَّمين من قبل ربِّ العزّة، العالم العليم بكلِّ شيء؛ و ذروة تلكم الحقيقة هو "كلام الله تعالى"، المنزَّل على مفسِّر أسرار الوجود، محمد عليه أفضل الصلاة، و أزكى التسليم.

يقول فتح الله في هذا الشأن: "الحاصل أنَّ الإسلام صوتُ كتابِ الكائنات و نَفَسُه و تفسيرُه و إيضاحه، كذلك هو رسْمُ ماضي الكائنات و حاضرِها و مستقبلِها، و صورتُها و خارطتها، و مفتاحٌ سرّيٌّ لأبوابها التي قد تُظَن أنها مغلقة. الإسلام "كلٌّ" يعبر عن هذه الأمور و الشؤون جميعًا. "كلٌّ" يستحيل تَجَزُّؤه، و يستحيل أن يُحمَّل جزؤه القِيَمَ المحمّلةَ على الكل. فإنَّ تجزئته إلى أجزاء، ثم محاولةَ استنباطِ فهمٍ كاملٍ و تام من الأجزاء غلطٌ و خطل و إهانة لروحه. و سوف يبقى من يريد أن يفهمه أو يحصره في تفسيرِ آياتٍ و أحاديث معدودة بأسلوب وعظيٍّ، مهزوزَ الوجدان بأحاسيسِ نقص حقيقي، و مُعانِيًا من خواء روحي دائم؛ مهما كدَّ و سعَى لسماع مجموعة الأنغام الرائعة هذه. الإسلام إيمان، و عبادة، و أخلاق، و نظام يرفع القيم الإنسانية إلى الأعلى، و فكرٌ، و علم، و فن. و هو يتناول الحياة كلاًّ متكاملاً، فيفسرها، و يقوّمها بقيمه، و يقدِّم لمنتسبيه مائدةً سماوية من غير نقص. و هو يفسِّر أداء الحياة دومًا ممتزجًا مع الواقع، و لا ينادي البتة بأحكامه في وديان الخيال بمعزل عن الحياة. يَربط أحكامَه و أوامره بمعطيات الحياة المعيشة و بإمكانية التطبيق، و لا يَبني الأحكامَ في دنيا الأحلام. الإسلام موجود و حركي في الحياة بكلِّ مساحاتها، من القضايا العقدية إلى الأنشطة الفنية و الثقافية... و ذلك هو أهم الأمارات و الأسس لحيويته و عالميته الأبدية"[95].

من هنا نخلصُ إلى أنَّ فتح الله مشدودٌ إلى "شمولية الحقيقة"، و إلى "عالمية الفكر الإسلامي"، و إلى "الرؤية الكلية غير المختزلة" للحقائق الثلاثة (الله، الإنسان، الكون)؛ مما دفعه إلى مواجهة كلِّ "نظرة ضيقة"، و محاربة كلِّ "عصبية مقيتة"، و دحض كلِّ "تجزيئية مميتة".

أمَّا سبب هذه "الرؤية الشمولية" فلا ريب أنه المصدر الصافي، أي الوحي المتجاوز المتعالي؛ الذي يمثل "الحقيقة كلّها"، و بعالج "أصول كلِّ شيء"، و يصدق أن يقال عنه: "فيه كلُّ شيء"؛ لا بالسرد و التفصيل، لكن بالتمثيل و التأصيل... هذه "الحقيقة الكلية"، هي التي سمّيناها في هذا البحث "نظرية كلِّ شيء في فكر الأستاذ فتح الله كولن". و ما هي في أصلها سوى التفسير لحقائق الوحي، تفسيرا ناصحا مبينا، من عالم ناصح أمين.

و يجمل بنا أن نختم هذا البحث بعبارة جامعة، من كتاب "ون حن نبني حضارتنا"، جاء فيها: "لقد أُرسل حضرة سيد الأنام (عليه ألفُ ألفِ صلاة و سلام) برسالة تتعلق بكلِّ أحد، و كلِّ شيء. و كان يوفي وظيفته حقها و يؤدّيها بعمق، فتمتلئ بحبه الأفئدةُ و تنجذب إليه القلوب"[96].



[1]     يذكر أنَّ الفيلسوف النمساوي "فتجنشتين" بنى لنفسه كوخا بسيطا، في مكان منعزل، عاش فيه أمدا طويلا، مع تأملاته عن فلسفة المنطق و الرياضة، و عن طبيعة العلاقة -التي كانت تؤرقه و تقلقه- بين اللغة و الفكر من ناحية؛ و بينهما وبين الواقع من ناحية أخرى. و نودُّ أن نستفيد من هذه الملاحظة ذلكم الصبر و التفاني، الذي عُرف به الفيلسوف المذكور، و كذا دقة السؤال و المشكلة. (انظر: بحوث فلسفية؛ تقديم عبد الغفار مكاوي، منشورات جامعة الكويت).

[2]     من قصيدة لشاعر الثورة الجزائرية، مفدي زكرياء، عنوانها "بنت الجزائر"؛ مطلعها:

سيان عندي مفتوح ومنغلق

يا سجنُ، بابُك، أم سدَّت به الحلَ                                                                       و فيها يقول:

أنام ملء عيوني، غبطة و رضًى

على صياصيكَ، لا همٌّ و لا قلق

طوع الكرى، و أناشيدي تهدهدني

و ظلمة الليل تغريني فأنطلق.

[3]     هو كتاب لطه حسين؛ طالعته قبل

عقدين أو أكثر؛ نشر دار العلم للملايين، بيروت، 1984.

[4]    

في قصيدة عصماء لمصطفى صادق الرافعي، يقول:

ليلة بعد ليلة بعد أخرى

و ليالي الهنا تمرُّ عجالا

[5]   

  الطابق الخامس: مصطلحٌ خاص بالخدمة؛ و هو إشارة إلى مكان تدريس الأستاذ أوان الملاحقات الظالمة، و بقي المصطلح بهذه الصيغة، حتى و إن لم تكن الحلقة في الطابق الخامس حقا؛ و اليوم يقال مثلا: "إنَّ الأستاذ يلقي مواعظه من الطابق الخامس في أمريكا" و الحال أنها فيلا، و ليست شققا ذات طوابق.

[6]     يحسن هنا أن يذكر مسؤولو مشاريع "المنظومة المعرفية الرشيدة" بخير؛ من مديري "المدارس العلمية و القرآنية"، و من المعلِّمين، و مسؤولي "معهد المناهج و فييكوس"، و كذا أعضاء "المجمع العلميِّ"... و غيرهم، ممن يحلو لي أن أسأل الله تعالى أن يأخذ بأيديهم، و يتقبَّل منهم جهادهم و هجرتهم، و صدقهم و صبرهم؛ و كلِّي يقين أنَّ وجودي هو عرقلة لهم، و أنَّ غيابي -بحول الله- فتحٌ وأيُّ فتح... فواحسرتاه مِن ضعفي و قلَّة حيلتي، و هواني على الناس... و إني أقدِّر حسنَ ظنهم فيَّ، بارك الله فيهم.

[7]     مجلة حراء، العدد:30 (مايو-يونيو 2012).

[8]     تشتمل النظرية النسبية على عدة أفكار أهمها باختصار بحسب ذاكرتي:

1-  مفهوم الزمان و المكان و قد اشتق منه لفظ "الزمكان"؛ و منه نتج مصطلح انحناء الزمكان، و هو عند وجود الكتلة أو الطاقة يصبح الزمكان مشوها ً بانحناءٍ، بدلا من أن يكون مستقيما؛ و قد أثبت أنَّ الضوء لا يسير بخطوط مستقيمة، بل ينحني بمقدار معين.

2-  فسَّرت النسبية العامة الجاذبية على أنها نتاج انحناء الزمكان بسبب الكتلة أو الطاقة؛ لأنها تقوم بصنع انحناء للزمكان، يتولَّد مجال جاذبية حولها؛ و قد خالف بذلك مقولات نيوتن أنَّ الكتله هي ما يسبب الجاذبية.

3-  عندما يحدث اضطراب في الشحنة ينتج عنه موجات كهرومغناطيسية سميت بـ"أمواج الجاذبية".

4-  لا يوجد فرق بين المادة و الطاقة، فالكتلة تتحول لطاقة إذا سارت بسرعة الضوء و ذلك بحسب القانون E=mc2، أي أنَّ الطاقة تساوي الكتلة في مربع سرعة الضوء؛ و لأنَّ المادة مكونة من ذرَّات، و الضوء مكوَّن من ذرات، فلا يوجد فرق بينهما.

5-  الكون مكوَّن من أربعة أبعاد "الطول، العرض، الارتفاع، و الزمن"؛ أمَّا الآن، و بعد ظهور نظرية الأوتار الفائقة، فالكون مكوَّن من أحد عشر بعدا.

6-  كلَّما زادت سرعة الجسم يحدث تباطؤ في زمنه؛ حتى أنه إذا وصل لسرعة الضوء يصبح الزمن قليلا جدا "و هذا مستحيل". أمَّا إذا تجاوز سرعة الضوء فإنَّ الزمن سيتوقف "و هذا مستحيل أيضا".

[9]     ميكانيكا الكمّ، فزياء الكم، أو النظرية الكمومية (quantum theory‏): نظريّة فيزيائية أساسية، جاءت كتعميم و تصحيح لنظريات نيوتن الكلاسيكية في الميكانيكا. و خاصة على المستوى الذري و دون الذري. تسْميتها بـ"ميكانيكا الكم" يعود إلى أهميّة الكم (quantum plural: quanta) في بنائها (وهو مصطلح فيزيائي يستخدم لوصف أصغر كمّية يمكن تقسيم الأشياء إليها، و يستخدم للإشارة إلى كميات الطاقة المحددة التي تنبعث بشكل متقطع، و ليس بشكل مستمر).

[10]    مفهوم "الهندسة" و"المهندس"، من جملة المفاهيم التي تكتسي عند الأستاذ فتح الله دلالة حركية خاصَّة، و قد استعرته منه، و وظفته قاصدا ذات النفَس؛ راجيا أن يحظى ببحث مستقلٍّ يكشف سياقاته و أبعاده الفكرية و الحركية، و بالخصوص أنه يرقى ليكون نموذجا معرفيا إدراكيا تفسيريا، و لقد نبهت في "البراديم كولن" إلى "نموذج المهندس عند الأستاذ فتح الله كولن". ففي مقال بعنوان "الحركية و الفكر" يقول الأستاذ: "على مهندسي مستقبل الضياء أن يجهدوا في استخدام قوتهم الفكرية، إلى جانب دوافعهم الحركي". و يقول في مقال "الكينونة الذاتية": "إنَّ انبعاثنا مجددًا بثقافتنا الذاتية يتطلب رجالَ قلوبٍ متحفزين بالإيمان، و مهندسي فكرٍ سائحين في الغد بأفقهم الفكري" و للأستاذ مقال بعنوان: "مهندسو الروح الربانيون". (انظر: و نحن نقيم صرح الروح، و نحن نبني حضارتنا).. 

[11]    "الواقع يجمِّع، و الفكر يفتت"، هذه حقيقة منهجية عبَّر عنها فيلسوف الإسلام محمد إقبال بقوله: "إنَّ تكويننا العقليَّ لا يجعل بإمكاننا إلاَّ أن نعرف الأشياء مجزَّأة؛ جزءا بعد جزءٍ...". (تجديد الفكر الديني؛ ص:137-138). و من ثمَّ فإنَّ تخصيص "الروح و القلب، في هذا البحث، لا يعدو أن يكون إجراء منهجيا؛ و إلاَّ فإنَّ للعقل، و الحسِّ، و التجربة، و الإلهام، و الوجدان... و لغيرها من مصادر الإدراك و المعرفة؛ إنَّ لها مكانة مرموقة في فكر الأستاذ، و لقد اقترحتُ بحثا بعنوان "نموذج المنطاد" عزمتُ فيه على معالجة "الإدراك، و نظرية المعرفة، و الرؤية الكونية" عند الأستاذ فتح الله؛ جمعت مادته الخبرية، و صغت خطَّته الأولية؛ لكنَّ الهمَّة قصرت دون تحقيقه؛ لعلَّ الله ييسِّر سبل ذلك.. ثم إنَّ هذا البحث هو تتمة لبحث معرفي آخر، هو "نظرية كلِّ شيء: بين عجز الفيزياء و تألق الوحي، فتح الله كولن نموذجا"؛ و فيه بينت "النزعة الشمولية" في فكر فتح الله؛ و منها شمولية مصادر المعرفة؛ و شمولية الفكر و الحركية...الخ 

[12]    أصل البحث محاضرة، ألقيت في جامعة جاكارتا، أندونيسيا؛ يوم 28 ماي 2012م؛ بمناسبة المؤتمر الذي نظم حول "النور الخالد" للأستاذ فتح الله كولن.

[13]    انظر: مشكلة المعرفة و الخصوصية الإسلامية، عند مالك بن نبي؛ محمد باباعمي؛ محاضرة أعدَّت لملتقى مالك بن نبي، تلمسان، الجزائر، جانفي 2012. نشر موقع فييكوس: veecos.net.

[14]    الأسئلة الجوهرية في نظرية المعرفة تتلخص في: "كيف نشأت المعرفة عند الإنسان؟ و كيف تكوَّنت حياته العقلية بكل ما تزخر به من أفكار و مفاهيم؟ وما هو المصدر الذي يمد الإنسان بذلك السيل من الفكر و الإدراك؟" (فلسفتنا، محمد باقر الصدر، ص:55).

[15]    ينبه محمد إقبال إلى أنَّ المنهج القرآني "يعتبر الأنفس و الآفاق مصادر للمعرفة"؛ إشارة إلى قوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ(فُصِّلَتْ:53). فإلغاء "التجربة الجوانية" إلغاء لشطر المعرفة كلية. و الحقُّ "أنَّ الله تعالى يرينا آياته في التجربة الجوانية و البرانية على السواء". (تجديد الفكر الديني، محمد إقبال، ص:208). أما المفكر العالمي بيجوفيتش فيقرِّر أنَّ "الإسلام يُعْنَى بالبحث الدائم عبر التاريخ عن حالة التوازن الجوَّاني والبرَّاني، و هذا هو هدف الإسلام اليوم. و هو واجبه التاريخي الْمُقَدَّر له في المستقبل" (الإسلام بين الشرق و الغرب، علي عزت بيجوفيتش).

[16]    نشير إلى التراث المترجم إلى العربية فقط؛ و هو يمثل حوالي سبُع ما نشر باللغة التركية، مما لم يترجم بعدُ. و الحق أننا لا نعرف باحثا واحدا خصَّ نظرية المعرفة عند فتح الله كولن، بدراسة مستقلة؛ رغم أهميتها البالغة في اكتشاف الأبعاد التي ينطلق منها في نموذجه الحضاري.

[17]    ينبه الأستاذ إلى أنَّ استيعاب حقيقة "الوجدان" مسألة مفتاحية في العلم و الفكر، و في الحركية و الدعوة؛ و المكونات الأساسية للوجدان هي: الإرادة، و الذهن، و الحس، و الفؤاد (اللطيفة الربانية). ثم يعتمد ما حلله بديع الزمان في هذا الشأن، و يعطيه نفَسا جديدا، و يفعِّله ثقافيا و حركيا و حضاريا. (انظر: التلال الزمردية، فتح الله كولن،  ج:3/ص:192 و ما بعده، باللغة التركية).

      يقول بديع الزمان: "إن الوجدان لا ينسى الخالق مهما عطّل العقلُ نفسه و أهمل عمله، بل حتى لو أنكر نفسه فالوجدان يبصر الخالق و يراه، و يتأمل فيه ويتوجه اليه" و يبدع في موضع آخر، بقوله: "فالخالق الكريم ينشر نور معرفته و يبثها في وجدان كل إنسان من هاتين النافذتين: نقطة الاستمداد و نقطة الاستناد.. فمهما أطبق العقل جفنه ومهما أغمض عينه، فعيون الوجدان مفتحة دائمًا" (المثنوي العربي  النوري، بديع الزمان سعيد النورسي، ص:431).

[18]    النور الخالد، فتح الله كولن، ص:14.

[19]    النور الخالد، فتح الله كولن، ص:14.

[20]    النور الخالد، فتح الله كولن، ص:15.

[21]    النور الخالد، فتح الله كولن، ص:26.

[22]    ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:168.

[23]    النور الخالد، فتح الله كولن، ص:49.

[24]    النور الخالد، فتح الله كولن، ص:61.

[25]    انظر: مقطع فيديو، للأستاذ فتح الله كولن، بعنوان: "اجتياز الزمن والمسافات" (إزمير/تركيا، 25 مارس 1990)، مترجم إلى اللغة العربية، موقع مجلة حراء. وانظر: الموسوعة الكونية للمجدد فتح الله كولن، مادة الزمن والوقت، تأليف محمد باباعمي.

[26]    النور الخالد، فتح الله كولن، ص:27.

[27]    النور الخالد، فتح الله كولن، ص:103.

[28]    النور الخالد، فتح الله كولن، ص:51.

[29]    النور الخالد، فتح الله كولن، ص:51.

[30]    النور الخالد، فتح الله كولن، ص:137.

[31]    أصل البحث محاضرة ألقي ملخصها في الملتقى الدولي، بعنوان: "السراج النبوي، ينير درب البشرية الحائرة"؛ من تنظيم مجلّتَي "الأمل الجديد"، و"حراء"؛ في غازي عِنْتَب، جنوب شرق تركيا؛ يومي 5-6 مايو 2012؛ بحضور مشهود، من ستين دولة، ومن جميع مناطق تركيا.

[32]    القاهرة، 14 محرم 1411 هـ / 5 أغسطس 1990 م. ينظر الرابط:

(http://www1.umn.edu/humanrts/arab/a004.html)

[33]    كتب "لي سيمون"، وهو أحد رواد نظرية "الأوتار الفائفة" مقالات بعنوان: "لا شيء بخير في الفيزياء، فشلُ نظرية الأوتار!"

Lee Smolin: Rien ne va plus en physique! : l’échec de la théorie des cordes. Paris: Dunod, DL 2007

وانظر: محمد باباعمي: نظرية كلِّ شيء، بين عجز الفزياء وتألق الوحي، فتح الله كولن نموذجا. ضمن هذا الكتاب.

[34]    مجلة حراء، العدد: 28 (يناير - فبراير 2012م).

[35]    لوموند ديبلوماتيك (Le Monde Diplomatique)، العدد: 3702، أكتوبر نوفمبر2011م. الرابط:(http://www.mondiploar.com/article3702.html?)

[36]    مدينة غازي عِنْتَب.

[37]    تركيا العثمانية.

[38]   Jean Ziegler, Uriel Da Costa: A demain, Karl: Pour sortir de la fin des ideologies (Collection «Coups de gueule». 1991.

[39]   Questions de communication, Revue, No 12/2007. P425

[40]   Victor Vieilfault: Le chant des étincelles. lechantdesetincelles.over-blog.fr

[41]    نبه إلى هذا المزلق المفهومي الخطير الأستاذُ فتح الله كولن، في مقال "نظرة إجمالية إلى الإسلام"، وانظر: مجلة حراء، العدد: 24، مايو-يونيو 2011م. ومما يؤكد هذا التشويه المغرض، أنك لو أردت ترجمة كلمة الإسلام في القواميس المتخصِّصة، تجد مقابلها (Islam)، (Islamisme). وكأنهما مترادفتان.

[42]    ضال البيابي: أنت ضحية لها، قراءة لفلسفة العدمية لنيتشه؛ موقع حكمة. الرابط:

      (http://www.hekmah.org)

[43]    أحمد عبادي، الوجهة؛ مجلة حراء، العدد: 25 (يوليو-أغسطس 2011م).

[44]    عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية. مادة "نهاية التاريخ". الرابط:

      (http://www.elmessiri.com/encyclopedia)

[45]    لوموند ديبلوماتيك (Le Monde Diplomatique)، العدد: 3702، أكتوبر-نوفمبر 2011م. الرابط: (http://www.mondiploar.com/article3702.html?)

[46]    هافيل: الحاجة إلى التفوق في عالم ما بعد الحداثة؛ كلمة في قاعة الاستقلال في فيلادلفيا، 4 تموز 1994.

[47]    انظر: يوميات مسلم ألماني، مراد هوفمان.

[48]    الطريق إلى مكة، مراد هوفمان، ص:148

[49]    الإسلام كبديل، مراد هوفمان، ص:136.

[50]    انظر: لماذا الدين ضرورة، هوستن سميث.

[51]    ونحن نبني حضارتنا (رسالة الإحياء)، فتح الله كولن، ص:37.

[52]    طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ص:22.

[53]    فتح الله كولن: جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، أنس أركنه، ص:213.

[54]    منشورات "معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية"، سلسلة ج، الرقم: 69، نشر فؤاد سوزكين، إكهارد نويبار، مازن عماري، 2002.

[55]    طرق الإرشاد في الفكر والحياة، محمد فتح الله كولن، ص:5.

[56]    سيرة ذاتية، سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم صالحي، دار النيل، مصر 1429/2008م، ص:490-491.

[57]    مالك بن نبي: من سمات التخلف إلى بذور الحضارة، محمد باباعمي، مجلة حراء، العدد: 27، (نوفمبر - ديسمبر 2011م).

[58]    انظر: الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، مالك بن نبي.

[59]    النور الخالد، فتح الله كولن، ص:139.

[60]    ينظر: البراديم كولن، محمد باباعمي، دار النيل، 2011م.

[61]    للتوسع، انظر المراحل السبعة، في هذا الكتاب.

[62]    موسوعة اليهود واليهودية (مصطلح النموذج)، عبد الوهاب المسيري.

[63]    لا ننكر تأخر المسلمين عن ركب الإبداع والاختراع، ولكننا نرفض أن يجحف القليل مما ينتجون، وأن تكون المعايير والمقاييس الدولية مفصلة على طراز ظالمٍ أساسا؛ فمجرَّد تطوير دولاب -مثلا- يسمح للغربي بتسجيل براءة الاختراع، أمَّا اختراع آلة أو ابتكار علمٍ أو نظرية في الشرق، فيعني الارتطامَ بحائط الرفض، والتنكر، والعراقيل الإدارية. ولنا تجربة في ذلك من خلال معهد المناهج، واختراع "أمان 4". كما أنَّ لنا أكثر من دليل فيما ذكره "أحمد زويل" من مقارنات بين مرحلة "مصر" ومرحلة "أمريكا"، فالعقل هو نفس العقل، ولكن البيئة اختلفت فتغير معها كلُّ شيء. (انظر: مذكرات أحمد زويل).

[64]    يقول الأستاذ فتح الله في مقال "ونحن نبني حضارتنا": "إن كنا الآن نفكر في إعادة بناء الذات من جديد، ونبحث عن أسلوبنا الذاتي الحضاري، فينبغي أن نتخلص من احتلال المفاهيم والأفكار الغربية في داخلنا، والمبرمجة على تخريب جذور الروح والمعنى فينا". (ونحن نبني حضارتنا، ص:13). وفي هذا الفصل يعالج الأستاذ العلاقة بين العلماء وبيئتهم، وأثر البيئة على بروز العلماء.

[65]   Brian Greene: "The Elegant Universe

[66]   Paris : R. Laffont, DL 2005 Brian Greene: La magie du cosmos : l’espace, le temps, la réalité : tout est à repenser

[67]    هو صاحب كتاب: موجز تاريخ الزمان، وصاحب نظرية الثقوب السوداء، وأحد أبرز علماء الفزياء المعاصرين.

[68]    انظر: مقال: حديث عن حدِّ العلم، محمد باباعمي، مجلة حراء، العدد:30 (مايو-يونيو 2012م).

[69]   Lee Smolin: Rien ne va plus en physique! : l’échec de la théorie des cordes. Paris : Dunod, DL 2007.

[70]    انظر: منطق الكشف العلمي، كارل بوبر.

[71]    موقع فييكوس: مايك سيمونس بمعهد المناهج: واقع المسلمين أثناني عن الشهادتين.

[72]    انظر: العلم والفرضية، هونري بوانكاري. 

[73]    يقول محمد باقر الصدر، في مقال له تحت عنوان: "اليقين الرياضي والمنطق الوضعي": "المشكلة تبدأ من إدراك الفرق بين قضايا العلوم الطبيعية، وقضايا الرياضة والمنطق الأوّليّة من النواحي الآتية: إنّ قضايا الرياضة والمنطق تبدو يقينيّة، فهناك فرق كبير بين 1 + 1 = 2، أو أنّ المثلث له ثلاثة أضلاع، أو أنّ اثنين نصف الأربعة؛ وبين قضايا العلوم الطبيعية نظير: إنّ المغناطيس يجذب الحديد، والمعدن يتمدّد بالحرارة، والماء يغلي إذا صار حارًّا بدرجة مئة، وكلّ إنسانٍ يموت. فإنّ القضايا الأُولى لا نتصوّر إمكانيّة الشكّ فيها بحال، بينما يمكن أن نشكّ في القضايا الطبيعية من النوع الثاني. فلو أنّ عددًا كبيرًا من الناس الموثوق بفهمهم وإدراكهم للتجارب العلميّة أخبرونا بوجود نوع من الماء لا يغلي بالحرارة، أو أنّ بعض المعادن لا تتمدّد بالحرارة، لتوقّف إيماننا بالقضيّة العامّة، بينما لا نستطيع أن نشكّ في الحقيقة الرياضية القائلة إنّ الاثنين نصف الأربعة، ولو أخبرنا أكبر عدد ممكن من الناس بأنّ الاثنين أحيانًا يكون ثلث الأربعة". 

[74]    الرابط هو: http://xxx.lanl.gov/ وانظر، تقرير (CNRS) الذي نشر على الأنترنت قبل يوم من الإعلام الرسمي؛ ولقد بدا السبق العلمي، ونسبة المشروع إلى عالم البلد، واضحا في تلكم التقارير. رغم أن المشروع أوروبي، وليس منسوبا لدولة معينة. ولذا تشير بعض التقارير للعالم أونتونيو إريداتو (Antonio Ereditato) الإيطالي الأصل؛ وتقارير أخرى تسلط الضوء على العالم الفرنسي انتسابا داريو أوتيريو (Dario Autiero).

[75]    تذكر بعض المراجع أنَّ التجربة أعيدت حوالى 15 ألف مرة؛ وصار الاكتشاف رسميا في المحافل العلمية.

[76]    يقول الأستاذ فتح الله في هذا الصدد: "وكما تعاقب ظهور العلماء في عالمنا الإسلامي من أمثال ابن سينا والفارابي والخوارزمي والرازي والزهراوي، إبان تحقُّق الوسط والبيئة الشبيهة، كذلك استَخدم الغربُ ما تَوارَثَه من المكتسباتِ خير استخدام وبأوسع وجه ممكن في ذلك الوسط، واستطاع أن يسِمَ القرون الأخيرة بسِمَتهِ." (ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:14).

[77]    انظر: نهاية التاريخ والإنسان الأخير، فرنسيس فوكوياما.

      (La fin de l’Histoire,le monde diplomatique. février 2011).

[78]    انظر: صدام الحضارات، سامويل هنتنغتون.

[79]    انظر: مؤلفات ألفن توفلر: صدمة المستقبل؛ والموجة الثالثة، وتحوُّل السلطة.

[80]    انظر: يوميات مسلم ألماني، مراد هوفمان.

[81]    انظر: يوميات مسلم ألماني، مراد هوفمان.

[82]    الإسلام كبديل، مراد هوفمان، ص:136.

[83]    ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:20.

[84]    يسمِّي مالك بن نبي الرجلَ الذي فقد كلَّ أسباب الحركة والحركية، وركن إلى الخمول والخمود، وآثر الدون على المعالي؛ لسببٍ أو لآخر... يسمِّيه "رجلَ القلَّة"، و"رجلَ النصف"؛ وهو يميِّزه عن "رجل الفطرة"، الذي وإن بدا ساكنًا؛ إلاَّ أنه يحمل بذور الحركية والفعل؛ خلافا للآخَر، الحامل لبذور الأفكار الميتة والقاتلة. (انظر: شروط النهضة، مالك بن نبي).

[85]    ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:7.

[86]    ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:135.

[87]    ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:54.

[88]    ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:54.

[89]    ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:55.

[90]    ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:55.

[91]    ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:133.

[92]    ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:134.

[93]    ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:135.

[94]    ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:139.

[95]    ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:61.

[96]    ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:148.

قراءة 2526 مرات آخر تعديل على السبت, 08 آب/أغسطس 2015 16:00

أضف تعليق


كود امني
تحديث