ها أنا ذا و أنا في العقد الثامن من عمرى (أربعة و سبعون عاما) و قد قرأت آلاف الكتب العربية في الآداب و الدين و التاريخ و الفن و الفكر، و ذلك كله بجانب تخصصي في هندسة الطيران و الفضاء، و أنظر متسائلا ماذا استقر في وعائي الحضاري من كل هذا الذى قرأت؟.
و الإجابة أن الذى استقر في وعائي الفكري صفحات قليلة على رأسها مجموعة من الأفكار لأستاذنا مالك بن نبي تبدو لي كأنها قوانين نيوتن في علوم الحركة.
الفكرة الأولى تتحدث عن مفهوم القابلية للاستعمار، و القابلية للاستعمار تنشأ من أن ننخلع من ثقافتنا و من نظمنا الحياتية و نستبدلها بثقافة المستعمر و نظمه الحياتية المختلفة، فإذا أصبحت أفكار المستعمر و نظمه تملأ قلوبنا فسوف تضعف مقاومتنا لاستعماره لنا بل ربما ندعوه أن يستعمرنا.
يحكى لي أ. د / عبد السلام الهراس أستاذ الأدب الأندلسي بجامعة فاس بالمغرب، قصة طريفة عن الأستاذ مالك لها علاقة بفكر القابلية للاستعمار، عندما ضاقت الدنيا بالأستاذ مالك في فرنسا لجأ إلى مصر في أوائل الخمسينات، و سكن مع مجموعة من الطلاب العرب في شقة متواضعة في القاهرة، كانت ظروف الأستاذ مالك في تلك الفترة صعبة للغاية حتى إنه في أحد الأيام نادى عبد السلام و قال له: يا عبد السلام.. أنت ولد مغربي طيب و لكن فيك داء خبيثف سأل عبد السلام: ما هذا الداء؟ قال تقترض من الناس و لا تعيد لهم أموالهم. فسأل عبد السلام (اقترضتُ مِن مَن؟ )... قال مالك منى، سأل عبد السلام.. اقترضت منك كم؟... قال اقترضت منى 40 قرشا، و أعادها للأستاذ مالك. ثم استطرد عبد السلام: يا أستاذ مالك.. أنت علامة جزائرى عظيم، و لكن فيك داء خبيث. فسأل مالك ما هو؟. قال عبد السلام تقترض من الناس و لا تعيد إليهم أموالهم.
قال مالك: اقترضتُ مِن مَن ؟. قال عبد السلام: اقترضت منى خمسة جنيهات و لم تعد. فسأل مالك: متى هذا؟
قال عبد السلام: عندما طلبتُ منى أن أشترى ساعة هدية لعبد الصبور شاهين لترجمته كتابك من الفرنسية إلى العربية (أظنه شروط النهضة).
قال مالك: اصبر لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.
و مرت بضعة أسابيع و وقع كتاب مالك الذى ترجمه عبد الصبور في يد الصحفي العظيم إحسان عبد القدوس و كتب عنه مقالا في مجلة روز اليوسف بعنوان "رجل يتحدث عن الاستعمار". و قرأ المقال أنور السادات الذى كان يريد مؤسسة إسلامية مصرية تُعنى بأمور العالم الإسلامي و اقتصادياته و تشجيع التعاون بين دوله، فأرسل إلى الأستاذ مالك يطلب منه أن يصبح مستشارا لهذا المنظمة و عينه فيها بمبلغ ثمانين جنيها شهريا و هو مبلغ كبير جدا في هذه الفترة لا يحصل عليه إلا الوزراء و كبار الموظفين في الدولة. و أغدق الأستاذ مالك على زملاءه فى السكن و أرسل في طلب أسرته لتلحق به من فرنسا، و كانت بركة فكرته عن القابلية للاستعمار بركة طيبة.
و الفكرة الثانية هو كل ما يتعلق بمعادلة مالك الحضارية :
إنسان + تراب + زمن الدين كمعامل مساعد = الحضارة
و الإنسان هنا هو نقطة البدء بما يملك من همة حضارية و ثقافية و اجتماعية و تخصصات تنمو، و الدين هنا هو الذى يعطى لحياة الإنسان وجهة هو يوليها حتى يندفع الناس لفعل الخيرات و يتسابقون فيها ، و هذه الوجهة وجهة نفسية عقدية و وجهة تشريعية و وجهة أخلاقية.
و التراب هنا هو البيئة المحيطة بالإنسان، و ما تملكه هذه البيئة من خيرات فوق الأرض و تحت الأرض، و القرآن يقول "هو الذى جعل لكم الأرض ذلولا، فامشوا في مناكبها و كلو من رزقه و إليه النشور" و كلمة "جعل" عندما تأتى في القرآن تأتى بمعنى أن هذا "أمر قرآني و عمل إنساني".
أي أن الله يأمرنا أن تُذلل الأرض بأيدينا و أن نواجه كل صعوباتها حتى تصبح نافعة لنا و لأولادنا، و أن نتعامل معها بما يرضى الله، فالحفاظ على البيئة لأجيالنا و للأجيال التي ستأتي من بعدنا واجب ديني و قارن ذلك بما نفعله الآن من تدمير للبيئة و استهلاك للطاقات على مستوى العالم الذى لا يرعى في سطح الأرض إلا و لا ذمة.
و هذا التعامل بين الإنسان و التراب في ظل الدين و الوارف سوف يحتاج وقتا ليؤتي أكله بإذن ربه.
هذه المعادلة المالكية يجب أن نعلمها لأولادنا و أن يعيها الساسة و المتنفذون يدركوا أن لكل عمل وقت معلوم.
و من الأفكار الجميلة التي تحدث عنها الأستاذ مالك فكرة الدورة الحضارية، تبدأ الدورة دائما بمصالح يحمل مشروعا حضاريا و يلتف حول مجموعة من التلاميذ ينشئهم على أخلاق و مفاهيم هذا المشروع، هم بالطبع يعيشون في ظلال تمدين قديم من حيث نوع العيش طعاما و شرابا و لباسا و سكنا و دفاعا.
و هذا النوع من العيش لن يتغير في يوم و ليلة، فالدورة الحضارية تبدأ بهؤلاء النفر القدوة و تغير بهم الحياة بسرعة في مرحلة الإقلاع حيث الهمم في أوجها و القلوب في قمة إخلاصها. و فى هذه الفترة يبدأ التمدين السائد في التغير نحو تمدين جديد ينطلق من المبادئ و القيم التشريعات التي جاءت بها الرسالة الجديدة. و يظل هذا التمدين الجديد يتغير رويدا حتى يصل إلى مرحلة يتوقف فيها عند أقصى ارتفاع وصلت إليه الأيدي و القلوب. و فى ظل التمتع بهذه الهمم في التراخي مستمتعة بالترف، الترف الذى بدأ يسود المجتمع، و تمر فترة تطول أو تقصر من هذا الاستمتاع الترفى حتى يبدأ نسيان الواجبات و الخلود إلى الثروة و تهبط الهمم و يبدأ المجتمع في نسيان واجباته و ابتداء الحضارة في الهبوط.
و فكرة الدورة الحضارية وجدتها أيضا في مقدمة ابن خلدون و الدرس المستفاد أن الترف هو سر فناء الحضارات و المجتمعات.
و لعلى أختم هذه الملاحظات بتذكر قول الله تعالى: "لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء و الصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذى أطعمهم من جوع و آمنهم من خوف".
فالحضارة لتبقى يجب أن تبتعد عن هذين الحدين (الترف / الغفلة) و تعيش بين الحدين (الجوع / الخوف) و ذلك بالعمل على إيلاف الناس لتنمية قاصدة تحافظ بها على كل مقاصد الدين الحنيف.
هذه بعض الخواطر التي تذكرتها و أنا اتحدث عن فكر إمامنا العظيم مالك بن نبي جمعنا الله به في جنة عليين، و على الله قصد السبيل و منها جائر و لو شاء لهداكم أجمعين.

http://www.veecos.net/2.0/