بات الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي يتولّى منصبه منذ عقدَين من الزمن، رجلًا طاعنًا في السنّ، ما يثير تكهّنات حول خلافته. لا يُعتبر عمر عباس و لا هذه التكهنات نقاشًا جديدًا، لكن الحديث عنهما يزداد. مع ذلك، ثمة تحوّل أكثر دقة في النقاشات حول القيادة الفلسطينية، يتجاوز مسألة عمر عباس: فقد أصبح المراقبون الدوليون مهتمّين بـ"كيف" ستتم عملية انتقال السلطة. لكن الفلسطينيين، و لا سيما من هم خارج الدوائر الرسمية، فباتوا يتساءلون "ماذا" سيأتي بعد عباس. و يبدو المزاج في أوساط بعض من يطرحون هذه الأسئلة متشائمًا على نحو متزايد.

تطرّقت الثرثرة الصحافية و الدبلوماسية عمومًا إلى سؤال "من سيخلف عباس؟" تنتشر قائمة من ستة أسماء تقريبًا، و تشمل قادة من حركة فتح و وزراء حاليين ورؤساء أجهزة أمنية، و لم تتغيّر إلا بشكل طفيف على مدى سنوات، و تضم مجموعة صغيرة من الرجال المسنّين. و عند طرح السؤال على المثقفين الفلسطينيين و المسؤولين في رام الله، فإنهم يدلون بدلوهم عمّن تُعتبر حظوظه قوية في الوصول إلى سدّة الرئاسة و من تتراجع حظوظه في هذا الصدد، لكن محور نقاشاتهم يتّجه نحو مسائل أخرى.

يبدو أن هذا التكهّن يفترض أن الفلسطينيين لديهم شخصيات أكثر مما لديهم سياسات أو إجراءات. لديهم الاثنان بوفرة، و لو أنهم غير راضين دائمًا عن أيٍّ منهما. في ما يتعلّق بالجوانب الإجرائية، كتبتُ أنا و فلاديمير بران مقالًا بعنوان The How of the Who (كيفية اختيار من ]سيخلف عباس[) في أيلول/سبتمبر 2022، استعرضنا فيه القواعد و الإجراءات التي قد تلجأ إليها مختلف هيئات القيادة الفلسطينية في تعاملها مع مسألة خلافة عباس. لم يكن هدفنا إظهار أن القواعد هي كلّ ما يهمّ، بل أنها على الأرجح لن تُنحى جانبًا.

عمومًا، لا تكمن المشكلة بالنسبة إلى الفلسطينيين في أن القواعد و القوانين ستُنتهك، بل أنها تعتمد على هيكليات، بعضها معطّل، على غرار برلمان السلطة الوطنية الفلسطينية، و البعض الآخر يعمل لكنه لا يوفّر أي مساءلة أو يعبّر عن صوت الشعب، مثل المحكمة الدستورية العليا، التي يتولى رئاستها راهنًا المستشار القانوني السابق لعباس. لم تحظَ هذه المسألة فقط باهتمامنا نحن، بل انضم إلينا محلّلون آخرون في دراسة الجوانب الإجرائية أو اقتراح ضرورة مناقشة أي إصلاحات يمكن ارتجالها أو فرضها.

إذًا، بدأ الخبراء في هذا المجال بتحويل اهتماماتهم نحو المسائل الإجرائية. لكن ماذا عن السياسة؟ هنا، اكتشفتُ الفجوة الأكبر (على الرغم من أنها آخذة في التقلّص) بين الدبلوماسيين و الخبراء من جهة، و الفلسطينيين الذين يدور النقاش حول مستقبلهم من جهة أخرى. في النقاشات مع الفلسطينيين في زياراتي الدورية خلال فترة التكهنات الطويلة حول الخلافة، لفتتني عمومًا ضآلة أصداء النقاشات المتمحورة حول "من" سيخلف عباس، فيما كانت تلك التي تركّز على "كيف" ستُجرى العملية قانونية على نحو مفرط، و هذا غير مفاجئ. في بعض الأحيان، شعرتُ أن التكهّنات و الشائعات، خارج بعض الدوائر الضيقة، كانت تدور لأنني كنت موجودًا، و أنها ستتوقف بمجرد مغادرتي. كان ثمة قضايا أخرى أكثر إلحاحًا، و حين طرحت مسألة الإجراءات المرتبطة بالخلافة، كنتُ كمن يسأل ركاب طائرة تهوي ما إذا يريدون تناول "الدجاج أم المعكرونة".

لكن لم يراودني هذا الشعور خلال الزيارة التي قمتُ بها مؤخرًا إلى الضفة الغربية. صحيحٌ أن الأسئلة حول "من" سيخلف عباس لم تلقَ أصداءً تُذكر، إذ إن معظم الأسماء على القائمة النهائية ليسوا شخصيات عامة بارزة، و لا تحظ سوى قلّة قليلة منهم بتقدير شعبي، و يُعزى ذلك إلى الشعور السائد بأن المسؤولين الفلسطينيين يشكّلون شلّة صغيرة لا تنفكّ تجدّد نفسها. لقد شكّل فساد القادة الفلسطينيين مادة دسمة للنقاشات طوال سنوات، لكن خلال زيارتي هذه لفتتني الأحاديث الكثيرة عن السلطوية، و المضايقات التي يتعرّض لها المعارضون، و القيود المفروضة على حرية التعبير و التجمّع، و تفلّت المسؤولين من المساءلة. لو غاب القادة الفلسطينيون عن المشهد، فلن يحزن عليهم كثيرون.

و لكنْ ثمة جانب في خلافة عباس يستدعي النقاش. فالفلسطينيون يميلون أكثر إلى التكهّن بشأن المسار الذي ستسلكه الأحداث في المرحلة المقبلة، لا بشأن هوية الشخصية التي ستخلف محمود عباس أو الطريقة التي ستنتقل بها السلطة. لا يتمتع عباس عمليًا بأي دعم من الرأي العام، و يبدو أن هيكليات السلطة الوطنية الفلسطينية – أو الدولة الفلسطينية، بحسب التسمية التي تطلقها السلطة الوطنية الفلسطينية على نفسها – ليست نواة للدولة، حتى في نظر أولئك الذين يديرونها، إلا بطريقة شعائرية تكاد لا تقنع أحدًا (أو لا تثير اهتمام أحد). ليست للسلطة الوطنية الفلسطينية علّة وجود، و لا استراتيجية. كل ما لديها عبارة عن قيادة و هيكليات مدمجة فيها لتولّي الشؤون الإدارية و فرض الأمن و توفير الخدمات لبعض المدن و البلدات.

و لكن لتلك الهيكليات بعض الحضور، و يُحكم محمود عباس سيطرته عليها إلى حدٍّ كبير. سوف يشكّل رحيله قفزةً في المجهول. فما هي الهيكليات التي ستستمر بعده؟ كيف ستعمل، هذا إذا ظلّت تعمل فعلًا؟ و كيف يمكن أن تتغيّر الحياة اليومية؟ إذا لم يحدث التعاقب على السلطة بطريقة منظَّمة جيدًا تكرّسها انتخابات ذات مصداقية، فالشخصية التي ستخلف عباس، أيًا تكن، ستثير على الأرجح شكوكًا منذ البداية بأنها إما مفروضة من الخارج و إما نتاج صفقة مشبوهة عُقِدت في الغرف الخلفية – أو الاثنَين معًا.

لا أحد يتوقّع إجراء الانتخابات في وقت قريب. ترغب الغالبية في حدوثها، و أعتقد أنها قد تثير، في حال اتُّخِذ القرار بإجرائها و بدا أنها ذات صدقية، اهتمامًا واسعًا و تستقطب مشاركة كبيرة، حتى من الشريحة الأكبر من الشباب الذين يشتكون من عدم قدرتهم على إيصال أصواتهم. و لكن ما من ضغوط منظّمة و ما من ضغوط من الرأي العام، في حين أن الفصائل السياسية المختلفة لا تريد الانتخابات أو تريدها بشروطها الخاصة التي يتعذّر التوفيق بينها. يسود انطباع واسع بأن الناس محرومون من التعبير عن رأيهم، و يتجلّى هذا الانطباع بصورة خاصة لدى الشباب.

و لكن المسار الذي ستسلكه الأحداث لاحقًا قد يكون أسوأ من نواحٍ كثيرة. تتحدّث الأصوات الأكثر اعتدالًا في الحكومة الإسرائيلية الحالية عن ضم الأراضي، و لكن من دون السكان. قبل جيلٍ واحد، تخوّف الفلسطينيون الذين انتقدوا عملية أوسلو (و مؤيّدوها حتى) من إنشاء سلسلة من "البانتوستانات" في الأراضي المحتلة في حال فشل المفاوضات. و الآن ها هم أولادهم و أحفادهم يشاهدون ذلك الواقع يترسّخ أمام أنظارهم.

يبدو أننا أمام احتمال حقيقي، لا بل أمام استراتيجية إسرائيلية محتملة تقوم على وضع الشعب الفلسطيني تحت سيطرة فلسطينيين محليين أقوياء في مدن غير مترابطة، يتولّون إدارة شروط الاحتلال الإسرائيلي بدلًا من استبدالها، ويحافظون على حدٍّ أدنى معيّن من الخدمات العامة. أما الأصوات الإسرائيلية الأكثر تطرّفًا – و بعضها يتولّى مناصب أساسية - فلا تكتفي بالدعوة إلى عزل الفلسطينيين و حرمانهم من أن يكونوا مواطنين في وطنهم الأم، بل تطالب أيضًا بطرد الأشخاص الذين لا يروقهم الوضع. و يتحدث البعض بأسلوب التهديد و الوعيد عن "العماليق" الذين ورد ذكرهم في التوراة بأنهم عدو أزلي للشعب اليهودي و يجب طمس ذكراهم.

إذًا نادرًا ما تحمل التكهنات بشأن "ما" سيحدث بعد عباس أخبارًا مبهجة. و يبدو أن رد الفعل السائد هو خليطٌ من اليأس و التطرف، علمًا بأن التطرف يتجلّى بصورة خاصة لدى الشباب. و هذا التطرف ليس في المجال الإيديولوجي، بل في عدم الثقة بالمؤسسات و السلطة، و في الاستعداد لتأييد أي شكل من أشكال المقاومة. تبعًا لذلك، يبدو أن صعود موجة العنف ضد إسرائيل في الأراضي الفلسطينية هو تعبير عن الذات أكثر منه تحرّك جماعي أو استراتيجي.

وراء تلك الموجة كثيرٌ من الغضب و اليأس، و لكن ليس واضحًا بعد إذا كان ذلك سيتحوّل إلى شيء مستدام. حتى الآن، لم يحدث هذا التحوّل. قبل الانتفاضتَين الأولى و الثانية، جرى تعزيز الشبكات غير النظامية، و حتى النظامية، على مستوى القواعد الشعبية. و كانت هذه الشبكات بقيادة مجموعات منظّمة إلى حدٍّ ما على المستوى المحلي. لا أدلّة حتى الآن على ظهور مثل هذه المنظمات حاليًا، سواء كانت نظامية أم غير نظامية. و لكن ليس ثمة ما يمنع فعليًا التحرّك الفردي. و ما يبدو عن بعد أنه موجة من التحركات العفوية إنما المعزولة يَظهر كذلك بالفعل عند النظر إليه عن قرب. لعلّه المسار الذي ستسلكه الأحداث في المدى القصير.