قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab
الخميس, 29 أيار 2014 10:33

فصول حول العلاقة بين الفكر والفعل 2/3

كتبه  الدكتور محمد باباعمي
قيم الموضوع
(0 أصوات)
 

و لقد ولِد على إثر السؤال نموذجٌ جديد، نُحِت من كتاب الله تعالى، و اختير له اسم "نموذج الرشد"، و ما إن التقى النموذج بالمعاني الفيَّاضة التي نسجها فتح الله نسجًا ساحرًا، حتى هلَّ بحثٌ بعنوان: "المراحل السبعة لتحويل المعلومة إلى معرفة في فكر فتح الله كولن".

و كعادة الفتى، تشجَّع فأرسل بحثه إلى "حراء"، غير أنَّ طبيعته و حجمه لم يكونا ليسمحا بنشره فيها، فحزن حزنا شديدًا، و تيقَّن أنَّ الخيرةَ فيما اختار الله، و لم يردِّد ما ألف بعض الناس ترديده: "لعلَّ الخير في ذلك"... بل أوْكَل أمره إلى الله وحده.

كان الفتى ذات ليلة يطالع، و ضَوْءُ فراشه فوق رأسه، فرنَّ هاتف من أقصى الأرض، قطع عليه مطالعته ليصله بأملٍ مشرق، فكان من هنالك، مِن وراء الخطِّ، رجلٌ لا يعرفه الفتى عيانا و رسما، لكنَّه عرفه معنى و وسمًا، فقال اللبيبُ: "قرأت منذ ساعة ما كتبتَ، في مقال "المراحل السبعة"، و كنتُ على متن طائرة، محلِّقا، فوجدتُني قد حلَّقتُ أعلى و أعلى، بما جاء في عملكم من دلالاتٍ و نفحاتٍ"...فدعا و شكر، ثم ودَّع و حيَّر...

شدِه الفتى، و طوى صحائفه، ثم ردَّد عبارات الهاتف العجيب، و الليلُ ليل، يغري و يُسبي، و لقد قال عنه قائلهم: "و ظلمة الليل تغريني فأنطلق"[2]... فانطلقَ، و هو يفكِّر و يقدِّر، و يقدِّم و يؤخِّر... يستنطق الأسباب و السنن، و يسأل اللهَ المنحَ و المنن.

بعد أيام، كان الفتى على متن طائرة، وجهة الأردن، في رحلة مكثَّفة، كالبرق مرَّت، ثم أمطرت و أخصبت، و قد شارك بمحاضرة هي نفس عنوان المقال المذكور... ثم ما لبث أن عاد إلى وطنه.

لم يكن الفتى -بحمد الله تعالى- أثناء هذه النفحات، و هو في وطنه عزيزا مكرَّما، لم يكن قابعًا، و لا ناقمًا، و لا تائهًا، و لا باحثًا عن وظيفٍ أو حظوة، و لقد يسَّر الله أمره و أحسن مثواه، بفضل منه و منّة و كرم... و كتبَ له أن يحظى برفقة "جماعة أو مجموع"، و أن يتحرَّك ضمن "نسق خصب"، كان هو أحدهم، و لم يكن أفضلَهم، بل إنه عدَّ نفسه و لا يزال، خادمَهم، و راعيهم، و المؤمِّل فيهم و منهم... فنشأت على إثرهم مؤسَّسات: منها مدارس و مكاتب و معاهد، و منها ملتقيات و مؤلَّفات و بعثات... كان آخرها "معهد المناهج" و "مؤسَّسة فييكوس" (Veecos)، و لقد كان أوَّلها "مكتب الدراسات" و"المدارس العلمية"... و ما بين ذلك أفكار و مشاريع و إبداعات، لا يُعرَف اليومَ حجمُها و لا يحصر حدُّها...

و لقد اختُبر روَّاد هذه المشاريع، فكانوا بحمد الله ممن يحتسبون الأجرَ عند الله، و لا يعنيهم أن يقال عنهم أو فيهم أو لهم... الواحدُ منهم يردِّد في جوف الليل خاشعًا، باكيًا، سائلا القبولَ... يردِّد سمفونية الأنبياء عليهم السلام، التي تلقَّوهما من ربِّ العزة و الإكرام: (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)(الشُّورَى:23)...

و جاء الصيف، و ليس كلُّ الصيف حيفًا، ول ا كلُّ صيف لغوا، و لقد شطَّ كاتب فوصفه في كتاب اختار له عنوانا: "مِن لغو الصيف إلى جدِّ الشتاء"[3]... لا ليس الحال كذلك، و إنما الصيف زمنٌ من أزمنة الله تعالى، خيرُه خيرٌ، و شرُّه شرٌّ: الخير و الشرُّ فيه من اختيار البشر وحدهم... أمَّا مَن آل على ذاته التحرُّر من قيود الإدارة و الوظيف، و حمل نفسه على مضاعفة العمل و البحث كلَّما اشتدَّ الحرُّ و لفح القيظ... أولئك يجدون في الصيف طعما و حلاوة لا توصف، فالصيف عندهم حقلٌ لأزهى الأعمال و المنجزات، و مناسبة للإقلاع و قطع المسافات...

جاء الصيف، فحاول الفتى أن يتشبَّه بالكرام، إذ لم يكن مثلهم، فحمَل قلبه و عقله، و رافق أهله و وِلده، ثم يمم شطر "إسطنبول"، بدعمٍ كريم، مِن عزيزٍ حميدِ الخصال، طيِّبٍ كريمِ الفعال... فاستقرَّ بها الفتى ما يربو على ثلاثة أشهر، يقرأ و يحفر، يحلل و ينحت، يركِّب و يصقل... ثم يكتب و يشطب... مستمدًّا العون من الكريم العليم؛ حتى استوى المؤلَّف على سوقه، فقدَّمه "للأكاديميا" هديةً من مقترٍ مقلٍّ، و تبرُّعا من مُريد محبٍّ... قصاراه أنه أهدى بعضًا من مهجته و فؤاده، و فدى بعصارةٍ مِن فكره و قلبه... باحثا عن الحقيقة في معادنها...

ثم عاد الفتى إلى أرض الوطن.... ليستأنف المجاهدة، بما أوتي من قوَّة، موقنا بقصوره، مقتنعًا بتقصيره ضمن "وعائه الحضاريِّ"، بكلِّ ما يحمله من خصائص مستمَدَّة من "النسيج الحضاري"... و هل يضير النخلةَ أنها ساكنةُ الواحات، و الحالُ أنَّ تمرها يغري الملوك، حتى و إن ارتقوا أسمى الغايات، و بلغوا أعلى الدرجات!

و بعد أمدٍ، أعاد الفتى الكرَّة، و جاء رفقة عشرين من مديري "المدارس العلمية"، يبتغي وصلا لمن أحبَّ، و يهفو إلى رؤية من تكرَّم و لم يهجُر، و سخى و لم يبخل... ثم يشاء الله أن يلتئم الجمعان: جمع "المنظومة" زائرا، و جمع "الخدمة" مَزُورًا... و يكون ذلك في القاعة العلوية لصرح "الأكاديميا"... و خلال جلسة دعوةٍ و تناصح و أنس، فوجئ الفتى بهدية من أخٍ عزيز، سِفرا كتِب على صفحته العلوية: "البراديم كولن، فتح الله كولن و مشروع الخدمة، على ضوء نموذج الرشد"...

لهج القلبُ قبل اللسان، حامدا، شاكرا، مستغفرا، داعيًا: "الحمد لله على هذه الثمرة، و على هذا المؤلَّف المحاولة، و إنا لنرجو فوق ذلك مظهرا...".

و لمَّا يرتو الولهان بعدُ، بل زاده الماء الزلال عطشا، و أنار له ضوءُ الشمس دربا جديدا؛ للبحث عن حقيقة لطالما صوَّح سائلا عنها: "كيف يتحول الفكر إلى فعل؟" أي: "لماذا بعض الفكر، و منه فكر فتح الله، يتحوَّل إلى واقع و فعلٍ حضاري، و بعضه الآخر يبقى رهين النظر و حبيس التنظير؟!"

أثناء ذلك، بل قبل ذلك بوقتٍ قليل، قيَّض الله شبابا، جاؤوا ليغترفوا الحكمة من المعين الشافي، و ليعبُّوا العلم من النبع الوافي؛ فسمِّيَت بعثتُهم، أو إن شئت فقل هجرتُهم، ببعثة "الخلائف"؛ و كان المقصد أن يتمثَّلوا صفات خلائف الله في الأرض، بما تحمله الخلافة من دلالات عميقة، عرفانية و معرفية، حضارية و فكرية، لا مجرَّد شعار و ادِّعاء، أو ظلٍّ للحقيقة و تزييف للمعاني.

فهل -يا ترى- سيفعلون؟ و هل -يا ترى- سيقدِرون و يقدِّرون؟ و هل سيشحذون وارداتهم و إراداتهم؟ و هل سيكونون تعزيزا لفريق السائلين الحائرين المشدودين إلى المعنى، فيسألوا بلا توانٍ و لا تردُّد: "كيف يتحوَّل الفكر إلى فعل؟"

ذلك، ما نأمله بعون الله تعالى...

و قد بلغ المولَّهَ المهموم، و الساعي للهدف المروم، و هو منهمكٌ في التأليف، خبرُ نجاح "الخلائف" بامتيازٍ في مسابقات الولوج إلى الجامعات التركية، فكتب مقالا رمزيًّا، جعل له عنوانا: "الحفرُ بحثا عن المنظومة!"، و مما ورد فيه على لسان الفتى: "غرفتُ بيدَيَّ سلافة الحضارة و التمكين، و شربتُ حتى ارتويتُ، ثمَّ التحقتُ بالركب، قطرةَ ماءٍ في بحر، و ذرَّة ترابٍ في فلاة، و أنا أردِّد بصوت عالٍ، ما علَّمنيه أستاذي الساعةَ: اليومَ يومُ الفعال، إن لم أنهض للعمل، فلن ينهض غيري... اليوم يوم الفعال، اليوم يوم الفعال..." فشمَّر العاشق عن ساعديه، و واصل الحفر، و لا يزال... ثم زار وفدٌ مباركٌ من "حراء" بلدَ الفتى، فحلُّوا ضيوفا على جزائره الحبيبة، يومَها انتشى الربيعُ، و انتشرت القلوب، فتقتقت البراعم عن زهر و ورد؛ لكنَّ الزيارة لم تدم طويلا "و ساعات الهنا تمر عجالا..."[4].

ثم، بعد أيام استُدعي الفتى إلى "الطابق الخامس"[5]، رفقة ثلة من خيرة العلماء و الباحثين من العالم العربي، و ثلة أخرى من العاملين المبدعين في مشاريع "الخدمة"، و لقد طُلب منه إعداد ورقة بحثية، أو محاضرة معرفية... ثم بعد جُهد و فكر، و بعد كدٍّ و عصر... استوت المحاضرة على سوقها، فاختار عنوانا لها: "بين مالك بن نبي، و فتح الله كولن، مقارنة مختلفة، باعتماد الأحجية العلمية منهجا"... و ألقاها على الحاضرين الضيوف، و هو أحدهم... ثم ارتوى مما كتبوا و قرأوا، و انتشى بما فكَّروا و نثروا؛ لكأنَّ القدر بدا يضمِّد جرحا غائرا منذ عقود، فيجمعُ شقيقين عزيزين على صعيد واحد، و لقد عصفت عليهما أعاصير العصبية القاتلة، ففرَّقت شملهما... و ها هي الرياح تهدأ -نسبيًّا- و المياهُ تعود إلى مجاريها، و ها هو الحرف التركيُّ يعانق الحرف العربيَّ، و الفكر العربيُّ يقبِّل فكر آل عثمان، و لا عجب، فهما من ثمار شجرة الإيمان... و يولدُ الأمل من رحم التفاؤل... فتخطو الجموع من هنا أولى خطواتها نحو التمكين من جديد...

لم ينس الفتى سؤاله، بل راح يحمله معه أينما حلَّ و ارتحل، و لقد آن الأوان ليفصح عمَّا في خاطره من مشروع، و ليجد بعض الوقت ليغوص في عمق فكره... فقطع المسافات الطويلة، و تحمَّل و تشجَّع و نوى، ثم كسر كلَّ إخلاد إلى "الأرض"، أو "العادة"، أو "الوظيف"، أو حتى "المسؤولية" بمدلولها الضيِّق... و لقد عدَّ نفسه ميِّتا، ففوَّض كلَّ أمرٍ من أموره، و أسند إلى أيدٍ أمينة كلَّ مسؤولية من مسؤولياته...[6] و لقد وجد أنَّ الدنيا ستواصل مسيرها به أو بدونه... فما كان منه إلاَّ أن كتبَ رسالةً إلى إدارة "الأكاديميا"، خطَّ في أوَّل سطرٍ فيها عبارة: "نويت الهجرة..."؛ ثم عرض عليهم مشروعَه للتفرُّغ، استجابةً منه لداعي البحثِ من قِبلهم، فتوكَّل على الله وحده، و ختم الرسالة، و أخفى السرَّ، ثم عقد النية و قال: "على الله توكَّلنا"...

بعثَ الرسالة مودَعة القدر الحكيم، داعيا المولى أن يحسِّن عاقبتها، كما حسَّن عاقبة كليم الله موسى -عليه السلام-، يوم ألقته أمُّه في اليمِّ، بأمرٍ من ربها، مطمئِنًا لها: (لاَ تَخَافِي وَ لاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)(القَصَص:7)... و حسبَ الفتى أن يأتيه الجوابُ يحمل البشارة الكبرى بالهجرة، ثم حسبُه أن يعود بعد أمد إلى وطنه، إذا عاد، لينذر قومه "لعلَّهم يحذرون"!.

حرص الفتى على كتم السرِّ، مستذكرا مقولة محمَّد الفاتح يوم نوى فتح القسطنطينية: "لو علمتُ أنَّ هذه اللحية قد اطَّلعت على السرِّ، لقطعتها"...

و الفتح فتحٌ... و السرُّ سرٌّ...

ثم طال الانتظار، حتى بدا اليومُ شهرا، و الشهرُ سنة، فظنَّ الفتى أنه لم يرقَ بعد إلى مقام القرب، و أنه ليس أهلا للوصل، ثم قبِل و رضي و اعترف بقصوره و تقصيره... داعيا متوكِّلا محتسبا...

و جاء يومٌ، تنادت فيه الجموع، أنَّ "حراء" المجلَّةَ تنوي زيارة الجزائر، و أنها نوت أن تتخذ "معهد المناهج" محطَّتها و منطلقها، تنتشر منه إلى غيره... يومَها بدا المعهد أفسح من ذي قبل، و حينها سطع نور أضاء الآفاق الرحيبة للقلوب... فعلِّقت الأعلام، و توالت الأحلام...

كانت الجموع منهمكة في التحضير... إلى أن جاءت الساعة المشهودة... ساعةُ الحسم... و في قاعة الشاي الأخضر المنعنع، قبْلَ بداية العرض و المحاضرة، جلس الأديب الأريب إلى جوار الفتى، فقال له بصوت خفي، و نجوى حلالٍ: "لديَّ بشرى لك... لقد كنتُ في أمريكا عند الأستاذ فتح الله، فأعطى إشارة البدء في إيفادك إلى "الأكاديميا" باحثًا... فبشرى لنا... ثم بشرى!".

لم يدرك الفتى أهو في عالَم الحقيقة أم هو في عوالم الأحلام؟ أحقًّا ستُكتب له الهجرة قريبا؟ ماذا عن البلد و عن المشاريع؟ و ماذا عن الولد و الأهل؟ بل، ماذا عن "الوعاء الحضاري" و الحضن الوطني؟

ما هي إلاَّ أيام قلائل، مسرعة سرعة الضوء و البرق، حتى ألفى الفتى نفسه يبرمج و يحضِّر، و يقدِّم و يؤخِّر... و لقد أعدَّ نفسه لمثل هذا اليوم، فأوكل -من قبلُ- المهامَّ و المسؤوليات لشباب اعتقد فيهم خيرًا... ألا ما أشبه مثل هذه الساعة بساعة الفراق الأخير... فو الله إنها (لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)(الذَّارِيَات:23).

ها هو الآن، اللحظةَ... بقدرة القادر العليم، و تدبير المنعم الحكيم، على متن طائرة، مع أهله و ولده جميعا، إلاَّ قرَّة عينه الربيع، و نعمُ الدنيا لا بدَّ لها من منغِّص... ها هو ذا مهاجِرا إلى الله و رسوله، ناويًا التخلُّص من الأدران، على رأسها ذنوبه و كسله و ارتباطه بالدون... مستعدًّا للمواجهة و الصبر و المصابرة... العواطفُ منه تغالب الأفكار، و الأحاسيسُ تغمر القلب... إلاَّ أنَّ الفتى لم ينس سؤاله الصغير الكبير:

"ما العلاقة بين العلم و العمل، و كيف نحوِّل الفكر إلى فعل؟".

 حديث عن حدِّ العلم، و العلاقة بين الفكر و الفعل[7]

تقوم الفيزياء الحديثة على ركيزتين أساسيتين، هما:

1-النظرية النسبية العامَّة لأينشتين[8]؛ و هي تمنحنا الإطار النظريَّ لفهم العالَم في أبعاده الكبرى: الكواكب، النجوم، المجرَّات... الخ.

2-ميكانيكا الكمِّ[9]؛ و هي تمنحنا الإطار النظريَّ لفهم العالم في أصغر أبعاده: الجزيئات، الكواركات... الخ.

كان الاعتقاد أنَّ كلا النظريتين صحيحتان؛ و هذا ما منح الفيزياء راحةً لمدَّة قصيرة، ثم ما لبث العلم أن وصل إلى مشكلة معقَّدة غير مريحة، و هي: أنَّ إحدى النظريتين تنفي الأخرى، فهُما متعارضتان، بحيث لا بدَّ أن تكون إحداهما فقط على صواب، و الأخرى بالضرورة تكون على خطأ.

لكن، لماذا حدث هذا التناقض الحادُّ؟

ذلك أنَّه في معظم الحالات يقوم الفيزيائيون إمَّا بدراسة الأشياء الكبيرة فقط، أو بدراسة الأشياء الصغيرة فقط، ول ا يجمعون بينهما في آنٍ واحدٍ، بحكم التخصُّص الدقيق، و ضعف الوسائل، و الاهتمام البشريِّ المحدود... الخ.

الآن لنستبدل المجال و النظريتين، و لنتحوَّل إلى الفكر و الحضارة الإسلامية، لنجد أنَّ مجمل تراثنا الحضاري موزَّع على جانبين:

1-إمَّا الجانب العلميِّ النظريِّ؛ و هو غالبا ما يكون من اختصاص العلماء، و الطلبة، و من يدور في فلكهم.

2-و إمَّا الجانب العمليِّ التطبيقيِّ؛ و هو ميدان السياسيين، و التجَّار، و العسكريين، و من يحوم في حقلهم.

و التعارض بين الجانبين، حتى و إن لم يكن مطلقا في تراثنا الإسلامي المعاصِر منه بالخصوص؛ إلاَّ أنه في كثير من الأحيان كان مهيمِنا، فهو معيار التخلُّف و الضعف في أغلب الأحيان؛ و هذا حال أمِّتنا الإسلامية اليوم، إلاَّ ما شذَّ. ذلك أنَّ ثمة هوَّة و شقَّة بين العلم و العمل، بين الفكر و الحركة. و هذا غير ما كانت عليه في العهد النبويِّ الزاهر، و في العهود المشابهة له، المستقاة منه.

السؤال المترتِّب و البدهي، هو: لماذا هذا التعارض؟

الجواب، بناءً على ما مضى في التوطئة، هو أنَّ العلم و أهله، عادةً، لا علاقة لهم بالواقع؛ و أنَّ الواقع و أهلَه، عادةً، لا علاقة لهم بالعلم؛ من هنا ولد الانفصام.

و لكن، إلى هنا، يبقى الجواب مجرَّد وصفٍ، و الوصف لا يدفع إلى العمل، فهو إجراءٌ مختزَل عاجز؛ و مِن ثم لزم تحديد سببِ، أو أسبابِ هذا الانفصام المحير فكريا و واقعيا.

و لقد حاول العديد من العلماء أن يؤلِّفوا -إجابة على هذا السؤال الهامّ - في الفعالية، و في مشكلات اللفظية، و في العجز عن الفعل، و في النزعة الخطابية... و ما إلى ذلك من المحاولات المشكورة، و التي نبَّهت إلى بعض الأسباب القريبة و البعيدة، الظاهرة و الخفية.

و نموذج الرشد، يضعُ هذه المعضلة في اللبِّ، و في رأس قائمةِ الاهتمامات؛ و لذا كانت الخاصية الأساس لهذا النموذج هي "حركية الفكر و الفعل"، أو ما يطلِق عليه "كيث ديفلين" عبارة "تحويل المعلومة إلى معرفة، و المعرفة إلى سلوك".

فنموذج الرشد، إذن، يتخطَّى عقبة "إمَّا و إمَّا"، أي "إمَّا الفكر و إمَّا الفعل"، "إمَّا العلم و إمَّا الواقع"؛ و يؤسِّس لعلاقة تقوم على أساس "كذا و كذا"، أي "العلم لأجل العمل"، و "العمل أساسه العلم"، و"كلُّ علم لا يفسَّر إلى فعلٍ حضاريٍّ، يسهم في رقيِّ الأمَّة و ازدهارها، هو مجرَّد ضياع للطاقة"، و"كلُّ واقع دينيٍّ، أو اجتماعيٍّ، أو سياسيٍّ، أو تربويٍّ، أو اقتصاديٍّ... أو غير ذلك، ليس له جذورٌ ذاتيةٌ أساسية في عِلمٍ ذاتي أصيل، هو مجرَّد تشويه لروح الأمَّة، و مسخ لكينونتها".

و لملاحظٍ أن يلاحظ أنَّ العلم له حدودٌ، و أنَّ النموذج قد يكون قاصرا عن الوفاء لهذه الثنائية، تماما مثلما كانت الفيزياء بشقَّيها عاجزة عن الوفاء للصورة الكلية للكون؛ فالجواب بالطبع أنَّنا لا ندَّعي الشمولية في الكمِّ، و أنَّ التركيز هو على الكيف، و لو في أبسط و أصغر فكرة، أو أبسط و أصغر فعل؛ المهمُّ فيهما أن يتَّسما بالحركية و بالتبادل، أي أن يكون بينهما جسر واصل، و خيط موصل.

و لنمثِّل بفعل يوميٍّ يمارسه الكثير من الناس، و هو شراء جريدة في الصباح، و الاطلاعُ على أهمِّ العناوين، و مطالعة أبرزِ الفقرات، و التركيز على أكثر المواضيع إثارة؛ فكثيرا ما سأل الشباب: هل هذا فعل حضاريٌّ يدلُّ على أنَّ صاحبه يقرأ، و يطالع، و يهتمُّ بأمر البلد؟ أم هو فعل اعتياديٌّ لا يتميِّز بسمة الحضارة و الفعل الإيجابيِّ؟

هنا يكون الجواب، بناء على نموذج الرشد، و بناء على جدلية الفكر و الفعل، أنَّ مَن يشتري الجريدة، بغرض الربط بين ما فيها من معلومات بما يصنع موقفَه هو، و بما يحرِّكه وجهة الفعالية و الفعل؛ يُعتبر راشدا في تفاعله مع الجريدة؛ أمَّا من يشتريها ليملأ عقله بالأخبار و المعلومات في كلِّ المجالات، بلا حدود، ثم بعد ذلك يتخذها مادَّة لحديثه، و يكرّرها على أصدقائه و معاشريه، ثم ينتهي اليوم، و يأتي يوم جديد، و يشتري جريدة جديدة، و هي تحمل أخبارا جديدة؛ فيدور صاحبنا عليها مثلما يدور "حمار الطاحونة" على الرحا... و هكذا، بلا ملل، و لا نهاية، و لا جدوى... هذا بالطبع مخالف للرشد، و هو تصرُّف مدعاة للوهن، بل و سبب في العجز غالبا.

 و لو أنَّ كلَّ قارئ لأيِّ جريدة، حاول أن يتحرَّك إيجابا في نقطة واحدة، على صِغرها، في يومِه، ثم يتحرَّك في الغد نحو فعل إيجابي ثان... و ثالثٍ... لجمعْنا نهاية كلِّ يوم الملايينَ من القطرات التي تسقي بساتين البلاد وابلا لا طلاًّ، و تحوِّل اليابسة جنَّات، و تعد الوطن و الأمَّة بغد مشرق منير.

و ليس لنا أن نتوقَّف في الوصف، و نقول: "إنَّ الجرائد أساسا لا تعرض الأخبار بهذه الرؤية الكونية الشمولية، و إنما تعرضها بغرض التنفيس، و بقصد الإثارة و التهريج"؛ ليس لنا أن نتوقَّف هنا؛ لأنَّ الفعل الإيجابي المترتب عن هذا الاستدراك هو أن نتحرَّك نحو إنشاء جريدة تخالف هذا المسار، و تصنع إعلاما مختلفا، بغاية مختلفة، و منهج مختلف، هو في الأخير منهج الرشد و الرشاد؛ و هو سبيل الرجل المؤمن من آل فرعون، الذي لم يستسلم للواقع، و لم يبكِ مثل الثكالى حال الناس، بل راح يصدح بالقول، و يضع المخططات، و يدعو الناس إلى السير وفقها، و لذا مدحه ربُّ الجلال بقوله: (وَ قَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ)(غَافِر:38).

و لقد ضرب "البراديم كولن" أروع مثال، بتأسيسه للعديد من المجلاَّت، ثم الجرائد، ثم القنوات التلفزيونية، فوكالات الأنباء... بناء على رؤية واضحة، و مشروع ناضج متكامل؛ قد لا نجد له في العالم العربيِّ اليوم الأثر الواسع، لأسباب معقَّدة و متداخلة؛ غير أنَّ أثره العميق يسري في جسم الأمَّة القطبِ، سريان الماء الرقراق في جذور "شجرة التوت" الشامخة، ذات الفروع الممتدة، و الثمار الحلوة، و العراقة الأكيدة، و النفع الدائم...

و لنهمس في أذن كلِّ مسلم، و نقول: لنبدأ بالفعل، أو بالفكر... المهمُّ أن نبدأ، و نسدِّد، و نقارب، و نبادل الأدوار، في "حركة حلزونية" لا متناهية؛ فمن بدأ لم يتوقَّف، و من تهيَّب لم يبدأ، و الله هو الهادي لسواء الصراط، و هو المجازي على حسن الفعال.

هندسة[10] القلب والروح[11].. سياحة معرفية، في كتاب "النور الخالد"[12]

الحمد لله القائل في محكم تنزيله المبين، إشادة بعباده المكرمين: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَ جَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ)(ق:33)، سبحانه و هو القائل عن الروح: (وَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ مَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)(الإِسْرَاء:85).

و الصلاة والسلام على من أسمع القلوب نداء الوجود الأزليِّ، المتربع على عرش الوجدان، محمد النبي الصفيِّ الصادق الأمين؛ القائل عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم: «ألا إنَّ في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، و إذا فسدت فسد الجسد كله، ألا و هي القلب»(متفق عليه). و هو القائل فداه قلبي و روحي: «إنَّ قلوب بني آدم كلَّها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد»(رواه مسلم).

و الدعاء موصول إلى الله تعالى أن يملأ قلوبنا بمحبته، و يثبتها على الإيمان بمحجَّته، و يسلِّمها من كلِّ ضلال و فساد و انحراف عن شريعته.

و بعدُ،

فإنَّ "نظرية المعرفة"[13] تناقش ما يعرف بمصادر المعرفة؛ و هي تحشرها في "العقل" أو "الحواس"، و لقد تتقدَّم خطوة فتجمع بينهما؛[14] و قد أبعِد القلب عن ساحة المعرفة قرونا طويلة، حتى غدا العلمُ مرادفا للعقل وحده، و باتت المعرفةُ تعبيرا عن الفكر بمفرده؛ فضاع أهمُّ مصدر للمعرفة بين ثنايا المجادلات و المحاورات و الصدامات البشرية، فها هي اليوم تصطلي جحيم هذا الجفاء المقيت، و لا تزال، و لن تزال؛ ما لم تتصالح مع ذاتها، و تستعيد علاقتها الحميمية مع قلبها، و تقيم التناغم الفطري بين الروحيِّ و الماديِّ، و بين الجوانيِّ و البرَّانيِّ.[15]

و لو سألنا عن أيِّ جامعة، أو مدرسة، أو مركز للبحث من أيِّ بلد كان: ما هي الوحدات التي تدرَّس؟ و ما هي التخصُّصات؟ و ما هي المدخلات و المخرجات؟ و ما هي المناهج و الآليات و التطبيقات؟... بل، ما هي الفلسفات و السياسات و الغايات من وجودها؟ لما تردَّدنا لحظة في الحصول على جواب، و هو أنَّ كلَّ ذلك رهين بالعقل و الفكر، و بالحواسِّ و الأجسام؛ أمَّا مخاطبة القلوب، فهي من تخصُّص الدين، و التصوُّف، و الرياضات الروحية عموما. أو هي تجربة فردية غير قابلة للتعميم.

و لنسأل الأستاذ المجدِّد محمد فتح الله كولن ذات الأسئلة، و نحن نتفيأ ظلال "النور الخالد"، مستعينين بمصادر و مؤلَّفات أخرى، مما ترجم إلى العربية، سائلين الله التوفيق و السداد.

القلب و الروح في تراث[16] الأستاذ

لا يخفي الأستاذ اهتمامه المعرفيَّ الشديد بالقلب و الروح، جنبا إلى جنب مع الفكر و العقل؛ و ذلك ما يظهر جليًّا في عناوين كتبه و مقالاته؛ فمن بين أبرز مصنَّفاته نسجِّل كتاب "ترانيم روح، و أشجان قلب"، و كذا "و نحن نقيم صرح الروح"، ثم في التصوف-الحركي نطالع "التلال الزمردية، نحو حياة القلب و الروح"، في أربعة أجزاء. و بصيغة مجازيةٍ نقرأ للجهاد روحًا، و ذلك في كتاب "روح الجهاد و حقيقته في الإسلام"؛ و بصيغة الوجدان، التي هي مركَّب من هذا و ذاك،[17] نقرأ عنوانا لكتاب آخر هو: "أضواء قرآنية في سماء الوجدان". و لا يمكن أن يُغفل أهمُّ مؤلَّف للتعامل اليومي، و للتربية و التزكية، و هو "القلوب الضارعة"، الحاوي لأدعية منتقاة من القرآن الكريم، و السنة الطاهرة، و التراث الإسلامي النير؛ ألَّفها الأستاذ و جمعها و حقَّقها؛ و هو الآن مصدر للواردات و الفيوضات.

أمَّا باللغة التركية، فضمن سلسلة "الجرّة المنكسرة" التي تزيد على إحدى عشر مجلَّدا، يحمل الجزء التاسع منها عنوانا مثيرا، يلقي الحسرة على قلب من لا يعرف اللغة التي بها يقتحم حما هذا السفر، و العنوان هو "إبرة القلب"؛ كناية عن إبرة بوصلة القلب، الموحِّد وجهته نحو القطب الواحد الأحد، الفرد الصمد؛ بلا تشتت و لا إشراك، و لا تردُّد و لا جحود.

أمَّا عناوين المقالات، فهي من الكثرة بحيث يتعذر في هذا البحث المختصر أن نتتبعها كاملة، و يكفي أن نعرض نماذج منها، من مثل: "مهندسو الروح الربّانيون"، "عندما تنبض القلوب برقّة"، "الأرواح المحلّقة في الذرى"، "القلب السليم مركب النجاة"؛ و ما ورد بصيغ مرادفة أو مجازية كثير جدا، من مثل: "نحو عالمنا الذاتي"، "و نحن نولّي وجوهنا شطر أنفسنا"، "العالم الداخلي"، "القرب و البعد"... و غيرها كثير.

هو قطعة من قلبه، و نسمة من روحه

يقول الدكتور أحمد عبّادي عن "النور الخالد": "إنَّ الأستاذ كتبه لنفسه، قبل أن يكتبه لغيره؛ و لذا كانت محتوياته أبحاثا فيها كدح و مكابدة من قِبل الأستاذ؛ لكي يتعرف أكثر على محبوبه، فلا يخطئ في حقِّه، و يستطيع أن يوفيه بعد ذلك مستحقَّه..."؛ أمَّا الأستاذ جمال تُرك، فيردِّد دائما مقولته الموحية: "مَن أراد أن يعرف الأستاذ، فلْيقرأ النور الخالد؛ ذلك أنه مرآة لحقيقة الأستاذ، و كشف لمكنوناته".

و لقد أوحت لي عبارة الأستاذ جمال أن أؤلّف كتابا، لو قدر الله أن يتمَّ، يكون عنوانه: "الأستاذ بقلم الأستاذ، ترجمة تحليلية من خلال النور الخالد".

و الحقُّ أنَّ القارئ لهذا الكتاب، يجده من المقدِّمة إلى الخاتمة صوتا واحدا، يرشح بالمعاناة و الشوق و الاحتراق؛ و من ثم فإنَّ فتح الله لم يؤلف "النور الخالد" بعقله و محفوظاته فقط، و إن كان متحكِّما في تفاصيل السيرة النبوية تحكُّما لا نظير له؛ و إنما سبكَه قبل ذلك بقلبه و وجدانه، و أودعه عيونا من أسرار روحه.

في بيان سبب التأليف يقول الأستاذ: "و كما قلت لإخواني مرارًا: إنني عندما أذهبُ إلى المدينة المنوَّرة أجد رائحته العطرة محيطة بي، إلى درجة تشعرني و كأنني سأقابله بعد خطوة واحدةٍ، و كأنَّ صوته الشجيَّ الذي يحيي القلوب يقول لي: "أهلاً و سهلاً.. و مرحبًا." ثم يضيف مؤكِّدا: "أجل، إنه حيٌّ و نضرٌ في صدورنا إلى هذه الدرجة، فكلَّما تقادم الزمن ازداد نضارة و طراوة و حيوية في قلوبنا"[18].

و عن منزلة الحبيب المصطفى، موضوعِ هذا المؤلف، يقول فتح الله: "إنَّ الزمن يتقادم و يشيخ، و إنَّ بعض المبادئ و الأفكار تتعفَّن و تتهاوى، أمَّا منزلة الرسول محمد -صلى الله عليه و سلم- فستبقى متفتِّحة في الصدور كأكمام الورود العبقة أبد الدهر، و ستبقى نضرة في القلوب على الدوام"[19].

ثم إنَّ الأستاذ، رغم كلِّ ما لاقاه من معاناة، و رغم كلِّ ما كابده من مخاض عسير، لم يطمئنَّ إلى أنَّ قلبه قد احترق حقًّا، و أنه بلغ حبَّ المصطفى المبلَغ الذي يليق به، فراح -كعادته- يلقي اللوم على نفسه، و يسائل روحه، فائلا: "إنني أسائل نفسي و أسائل جميع الذين يتصدَّون للتبليغ و الدعوة: هل استطعنا أن نشرح لإنسان هذا القرن حبَّه... حبَّ سيد السادات حبًّا تجيش به القلوب؟ هل استطعنا أن نبهر القلوب و الأرواح بهذه العظمة، عظمته -صلى الله عليه و سلم-؟"[20].

و يصدق أن نقول: لو أنَّك شرَّحت قلب الأستاذ لطفح منه رشح "النور الخالد"؛ و لو أنك لامست روح الأستاذ لأصابك لفح من شهاب "النور الخالد"؛ ثم لو أنكَّ حلَّلت "النور الخالد" تحليلا دقيقا، للاح لك شبحُ الأستاذ، مِن هنالك، من بعيد، و هو يذرف الدموع السخينة و يقول: "كلُّ كلام في مدحه -صلى الله عليه و سلم- جميل؛ فإن وجدتم شيئا نابيا، فمنّي و من أسلوبي، أمَّا ما يتعلَّق بفخر الكائنات فكلُّه مشرق و جميل".

و لقد نقل بعض طلبة الأستاذ أنَّه أوان إلقائه "النور الخالد" دروسًا في جامع "والدة سلطان" بحيّ "أُوسْكُودَار"، كان كلَّما تقدَّم إلى درس اعتقد و آمن، و حضَّر نفسه و قلبه، على أن يكون هو آخرُ مواعظه، و أنه سيلقى حتفه بعد ذلك، و لقد يودع السجن، أو يصاب بمكروه؛ و من ثمَّ جاءت هذه الخطب النارية في منتهى الصدق، و هي بحقٍّ: نصائح مودِّع للخلق، و لآلئ مقبل على الحقِّ.

 الرابط:

http://www.hiramagazine.com/%D8%B0%D9%83%D8%B1%D9%89-%D9%81%D8%B1%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%86%D8%B5%D8%A7%D8%B1%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D8%AD%D9%85-%D9%88%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%AF%D8%A7%D8%A1/item/2005-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B3%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%84-%D9%81%D8%B5%D9%88%D9%84-%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-

قراءة 1832 مرات آخر تعديل على السبت, 08 آب/أغسطس 2015 15:58

أضف تعليق


كود امني
تحديث