قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab
الجمعة, 24 كانون2/يناير 2014 13:06

الوعي الجمعي

كتبه  الأستاذ فتح الله كولن
قيم الموضوع
(1 تصويت)

إن أشد الفترات تأزمًا في حياة الأمم هي الفترات التي تعيش فيها حالة تغيّر اجتماعي، و تعيد فيها تشكيل بنائها الذاتي من جديد. و إن حالها في هذه الظروف تشبه حال الأحياء التي تدخل مرحلة "التحول البيولوجي"، حيث إنها طوال عملية التجدد تتقلب وسط أوجاع مخاض مرهقة، و تقاسي كروبًا مضنية، و تكابد آلاما متتالية لكي تطرح عنها عناصر بالية مضرة، و تطور بدلاً منها عناصر جديدة نافعة... كذلك في فترات التحول الاجتماعي و بسبب الأحداث التي تثير حالة التوتر لدى الجماهير، لا مناص من الوقوع في براثن الأزمات سواء على مستوى الفرد أم المجتمع. أما إذا تجاهلت عمليةُ التخطيط و البناء "الثوابتَ" التي أبرزت جدارتَها مرارًا عبر اختبارات عديدة، فسوف تزداد الأزمة تعقيدًا و تؤدي بالمجتمع إلى أخطاء فادحة.. إذ قد يقع العقل و المنطق -في هذه الأحوال- صريعًا أمام العاطفة.. و قد تنفلت الأوضاع فيؤدي ذلك إلى الانحراف عن الخطط المرسومة، طبعًا إن كانت هناك خطط مرسومة.. و قد يتلاشى التناغم العام كليًّا نتيجة الحلول المؤقتة الضيقة و المشاريع الصغيرة القاصرة، فيواجه المجتمع نتائج مرعبة -لم تكن في الحسبان- تجري في عكس اتجاه الخطط المرسومة و الآمال المنشودة.. و بالتالي فقد تندفع الجماهير و كذلك القيادات التي توجّهها -كما نلاحظ ذلك كثيرًا- إلى تصرفات عاطفية طائشة في المواقف التي تقتضي التعقّل و التبصّر و التدبير، و من ثَمَّ يؤدي ذلك إلى ألوان من الهدم و التخريب في مرحلة البناء و التكوين.

إن الشعوب و الأمم كثيرًا ما تجد نفسها أمام "ملتقيات قدَرية" إبان فترات إعادة البناء و مخاض التحوّلات. تلك الملتقيات قد تحمل في طياتها إمكانات الرقي و التألق الباهرَين، و لكن قد تنتهي بها -بسبب اندفاع الجماهير و جشع المتمركزين في القمم- إلى انهيار فجائي لكل ما تم بناؤه حتى تلك اللحظة، و العودة إلى نقطة البداية من جديد، و تلك لعمري مأساة قلّما خلت منها حقبة من الزمان. بيد أن ما يجدر ذكره هنا، أن الفرد في فترات التغيّر و التحوّل تعتريه حال مغايرة للحال التي كان عليها في أيامه الطبيعية. إذ ينسلخ من الحالة الفردية انسلاخًا تامًّا، و يتقمّص بقميص "سيكولوجية الجماهير"، و يتحوّل إلى كيان جماهيري، حتى يصير جزءًا لا يتجزأ من الحشود التي تندفع كالسيل الهادر نحو اتجاه واحد تبتغي الوصول إليه و لا ترضى عنه بديلاً.. و في سبيلها تلك تجرف كل ما حولها من عناصر، و تدفع كل ما يعترض سبيلها بغية الوصول إلى هدفها المنشود. و إن الأفراد الذين تعرضوا لتحوّل ذهني كهذا، لا يستطيعون أن يعملوا بعقلية الفرد المتثبّت الممحّص البصير، بل يندفعون مأخوذين بـ"سيكولوجية الجماهير" و عقليتها، منقادين لتوجيهاتها، منصاعين لأوامرها.

و إن ذلك النمط السابق من هذه العقلية و مفرزاتِها يختلف تمام الاختلاف عن نمط عقلية "الوعي الجمعي" و يتناقض معه تمام التناقض في مقاصده و مآلاته. إذ إن النمط الأخير ينبني في أصله على التعقّل و التمحيص و التثبّت و التروي، و ملاحظةِ الحاضر و المستقبل معًا في التقدير و التدبير، و معاينةِ الجزء مع الكل جنبًا إلى جنب في آن واحد. و من ثَمَّ كنا و ما زلنا نحض على ذلك النمط من الوعي و ننصح به باستمرار. فبينما تطغى على النمط الأول عواطف غير منضبطة و حماس غير متزن و انفعالات غير منتظمة، يتألق في النمط الثاني التعقّل و التبصّر و الانضباط و الانتظام و الحذر و التثبّت. و قد يبدو كلا النمطين من التفكير و السلوك متشابهين للوهلة الأولى من حيث الصورة الحركية و الوعود المستقبلية التي تبشر بها، إلا أنه من المستحيل تجنُّبُ وقوع عواقب تتناقض مع جوهر الحركة و أهدافها في النمط الأول، في حين أنه في النمط الثاني لا مكان للتعثّر و الانتكاس و الفشل بالقدر نفسه على الإطلاق.

إن "الوعي الجمعي" –بالمفهوم السابق- يحمل في أعماقه أسباب وجودنا و أسرار بقائنا أمة، إذ يستقي مادة حياته من منبع ثقافتنا الدينية و هويتنا الذاتية، و بفضله تتناغم مكارم الأخلاق مع الحياة الاجتماعية. إن الأفعال التي تصدر عن الأفراد ذوي "الوعي الجمعي" تنسجم فيها العاطفة الجياشة مع السلوك الواعي المنتظم، و الحيوية المتدفقة مع الإقدام المتبصر المتزن. و إذا ما تم تثمين هذه الأفعال في فترات التحوّل فإنك لن تجد ميزانًا يستطيع أن يوفيها قدرها، لأنها قد بلغت قيمة ما بعدها قيمة بالدور العظيم الذي قامت به.. و شتان بين وزنها في مثل هذه الظروف الحرجة و وزنها في الأوقات العادية. أما الأفعال التي تصدر عن الحشود المندفعة بـ"سيكولوجية الجماهير" فإنها لا تخلو من أخطاء كبيرة و اضطرابات مدمرة.

إن المبادرات و المشاريع التي تستهدف مقاصد سامية و غايات عالية تسمو بأبنائها من حال إلى حال، و ترقى بهم من درجة إلى أخرى، و تظل تشحذهم و تصقلهم حتى تنضجهم و تجعل منهم كيانات متوحدة في مجموعة واحدة، و تُخرج منهم أممًا في أفراد. و لا شك أن أصحاب المشاريع الكبرى إذا نجحوا -أثناء إنجاز مشاريعهم- في أن يقدّموا العقل على العاطفة، و التجربة و الملاحظة على السلوك الحماسي، و أن يحيطوا مشاريعهم بأنوار الرسالة الربانية.. إذا نجحوا في ذلك فسوف تدخل الحشود المندفعة بالعاطفة تحت تأثير تلك الحركة الحكيمة المتثبتة المتوازنة، و تنخرط في سلكها، و ترقى في تحركها إلى موقع التعقّل و الاتزان و الانضباط، فتلتقي مع أرباب الاستقامة و أهل الاعتدال على خط واحد.. و هنا بالتحديد سوف يَبرُز "أربابُ المستوى" ممن تفوّقوا على الجماهير تبصّرًا و حكمة و فكرًا ليتفاعلوا معهم و يقاسموهم عواطفهم الجياشة و حماسهم المتدفق، و بالتالي سوف يظهر فضاء مركّب عجيب من حركة العقل و العاطفة. و هكذا فإن الأفراد الذين لا يستطيعون -بحكم مزاجهم البشري- أن يكونوا رجال تعقّل و اتزان في كثير من الأحيان.. بعد تسرّب هذا الفهم الحكيم إلى وعيهم و شعورهم و تشربهم له، و بعد تقلّبهم في بوتقة "الوعي الجمعي" و انصهارهم فيها، و بعد قبولهم هذه الخميرة الحيوية و استيعابهم لها، و دخولهم في مراحل تحوّلية جوهرية و تَشكُّلِهم فيها.. فإن هؤلاء الأفراد سوف يتسامون إلى مرتقى عال و فضاء واسع يصبحون فيه أبناء مثاليين لمجتمع مثالي. و إن جميع التحوّلات التي تحصل في هذه الوتيرة الكريمة، قد لا نجد لها تفسيرًا معقولاً للوهلة الأولى، و قد تبدو لنا و كأنها تحدث في عالم من الخوارق بدفع من قوى غامضة خفية؛ بينما يمكن إرجاعها جميعًا إلى مرجعية أساسية حيوية، ألا و هي هويتنا الذاتية و شخصيتنا الثقافية المعنوية التي نهلت من روح الدين و تغذّت بجوهره و تشبّعت بحقائقه الخالدة. و إنه لمن الحقائق الكبرى التي لا تقبل الشك و المراء، أن أبناء أمتنا النجباء، بفضل هويتنا الذاتية هذه، قد اجتمع شملهم و التأم شتاتهم حول فكرة واحدة و عاطفة واحدة مرات عديدة طوال التاريخ؛ فانتظمت صفوفهم على غايات متبادلة و أحلام مشتركة، و خفقت قلوبهم بنفس المشاعر و الآمال، و دافعوا جبنًا إلى جنب عن القيم السامية ذاتها، و كافحوا صفًّا واحدًا من أجل المبادئ العالية نفسها، و استبقوا فيما بينهم دون توقف أو فتور لتحقيق الرؤى المنشودة عينها و المقاصد السامية نفسها.

صحيح أن هناك عوامل و دوافع أخرى لها سلطان على الأفراد و الجماعات و لها تأثير على سلوكهم، و لكن عندما تتصل الأمة بجذورها الروحية و تُحكِم صلتها بأصولها الوجدانية، فلسوف يتلاشى تأثير تلك العوامل، و يبهت دورها، و يضعف وزنها. و إذا كانت وشائج الارتباط بين أبناء الأمة و مقوماتها التاريخية -المادية منها و المعنوية- وثيقة متينة مستمرة، فسوف يحلّق هؤلاء الأبناء الأوفياء نحو فضاءات الماضي الزاهر، و تتفاعل مشاعرهم القلبية بمشاعر أجدادهم النبلاء، و يندمجون معهم في جيشانهم الروحي و تألقهم الوجداني -بدفع قويّ من الوعي بالتاريخ- فتلتقي التصورات و تتوحد الآمال.. فيحققون بطولات تضاهي بطولات أولئك الأجداد، و يبدعون في تطوير أنظمة فكرية، و رؤى عالمية، و مبادئ و مشاريع جديدة تحمل قدرة التأثير على المجتمعات البشرية في كافة بقاع الأرض. و يمكننا أن نذكر لذلك نماذج بطولية عديدة في باب تاريخنا التدافعي التحاسبي مع القوى العالمية الكبرى مثل ملحمة "مؤتة" و رائعة "القادسية" و معركة "مالاذْكُرْد" و أسطورة "جَنَقْ قلعة"... كما يمكننا أن نذكر عواصم عديدة في باب التذكير بموقعنا المرموق في الموازنات الدولية من خلال الخط التاريخي الذهبي الممتد من المدينة المنورة إلى الشام، و من الشام إلى بغداد، و منها إلى إسطنبول. و نكتفي بهذا القدر هنا، اعتمادًا على فراسة القارئ و غزارة مادته المتعلقة بهذا الشأن في خزانة تداعياته التاريخية.

لقد دخلنا في هذه الأيام مع الأمم و الشعوب المرتبطة بنا في سلسلة من التحوّلات و التغيّرات. و إذ نسير نحو مستقبل حافل بتحوّلات متلاحقة و تقلّبات متتالية، فإنه من الأهمية بمكان الحفاظُ على روح الأمة و هويتها الذاتية، و إقرارُ الفرد و الجماهير على محور التعقّل و التبصّر و الاتزان في التفكير و التخطيط و التدبير، و عدم إتاحة الفرصة لأيّ نوع من أنواع التفكير الفوضوي و السلوك الاستفزازي الذي من شأنه أن يثير الحشود الجماهيرية إلى تصرفات عشوائية مجهولة العاقبة.. و في حال وجود بؤر استفزازية ينبغي التصدّي لها فورًا.. و إنّ اتباع هذه الخطوات و اتخاذ تلك التدابير مهم جدًّا بقدْر أهمية الإرشاد إلى الله سبحانه و تعالى و الجهاد في سبيله، بل قد يكون أهم منهما و أخطر في الظرف الراهن بالذات. و لا يَغيبنّ عن البال أبدًا أنه من السهولة بمكان، أن تتحوّل الجماهير الحاشدة من الألفة إلى البغض، و من الوحدة إلى التفرّق، و من التحرّك المشترك إلى الفوضى و التمزّق. لذا ينبغي ألا تتاح الفرصة لأفراد الحشود العشوائية في أن يجرفوا أنفسهم و الأمة التي ينتمون إليها، نحو عواقب مأساوية بسبب معالجات متعجلة متسرعة، أو تحت تأثير بعض النفوس المولعة بالمغامرات. أجل، ينبغي التصدي لتلك النفوس المغامرة حتى لا تعبث بمقدرات الأمة؛ و بالمقابل يتطلب الموقف توجيهَ الأنظار باستمرار إلى الأبطال المخلصين الذين يمثلون روح الكتاب المجيد و جوهر السنة النبوية الشريفة. و إنك لتلمح في سلوك هؤلاء الأبطال الذين يُعتبَرون ركنًا نورانيًّا أساسيًّا من أركان "الوعي الجمعي" الذي يدور في مدار الوحي الإلهي.. إنك لتلمح التواضع و الانمحاء و نكران الذات بدل السعي وراء الشهرة و المناصب، و الإيثارَ بدل الاستئثار، و الحرصَ على مصالح المجتمع بدلاً من المصلحة الذاتية.

إن هؤلاء الأبطال يحملون في جوانحهم هموم المجتمع كله.. هموم يومه و غده.. و هم يشعرون في أعماقهم بمسؤولية تاريخية تجاه حاضر الأمة و مستقبلها. و بالتالي فبينما تجدهم يزأرون بأفكارهم بشجاعة منقطعة النظير حينًا، تلقاهم في حين آخر و قد اعتراهم الهمّ المقلق، و أصابهم الأرق المضني، و ذهبت بهم التوجسات مذاهب شتى حرصًا على حياة البراعم الناشئة من الضياع. فمَثَلُهم في ذلك مثل الدجاجة الحضون التي تبسط أجنحتها على بيضاتها، و تشمل أفراخها بالمحبة، و تموت و تحيا من أجلها في اليوم مائة مرة. و من ثَمَّ فإنهم إذ يتعرّضون إلى أشنع أنواع التشويه و التحقير و الإهانات لا يردّون عليها و لو بكلمة، بل يتحمّلونها على مرارتها معتصمين بالصبر الجميل؛ و إذ تتفجر براكين العواطف و تثور نيران الانفعالات في أعماقهم لا يأبهون لها، بل يكظمونها و يحبسونها في صدورهم، ثم يمضون في سبيلهم كأن لم يحصل شيء قط. إن هذه النفوس المتدفقة بمشاعر سامية، لن تُحجم أبدًا عن أن تُقبِل على الموت بابتسام، أو أن تضحّي بأرواحها من أجل الآخرين ببسالة مذهلة، أو أن تزجّ بنفسها وسط النيران كإطفائي شجاع بكل سعادة لإنقاذ من يستغيث بها. و هي إذ تقوم بهذه البطولات الفريدة يتوهج ألق الشعور بالمسؤولية على ملامحها، و تتجلى لذة العبودية و خشوعها على تصرفاتها. إنهم لا ينتظرون جزاءً و لا شكورًا مقابل تضحياتهم النبيلة، بل لو استنجدهم أحد فلم يسرعوا إلى نجدته في الحال عدُّوا ذلك جريمة لا تغتفر، و اعتبروا أنفسهم غير أوفياء، و بادروا إلى محاسبة أنفسهم و تعنيفها.

قلوب هؤلاء المخلصين تخفق بالأمل في كل وقت.. و إنك لن تجدهم مقصّرين أبدًا في استثمار الطاقات و الإمكانات المادية و الروحية التي تدعم مشاريعهم و تحقق خططهم التي رسموها وفقًا لخريطة آمالهم، و اعتبروا إنجازها أسمى أمانيهم. و هم في كل ذلك لا يبتغون سوى مرضاة الله تعالى و التحقق بمعاني الإخلاص المحض؛ حتى إذا ما مُنِحوا -دون سؤال منهم- مكافأةً مادية أو تنزّلت عليهم مواهبُ روحية و موارد وجدانية لقاء خدماتهم أو مكابداتهم، فسوف يترددون بين هواجس الخوف من أن يكون ذلك استدراجًا من الله و ابتلاء، و بين فرحة نوال النعمة العظمى و الإعلان عنها؛ فتجد عباراتهم تترواح بين مشاعر الخوف و الرجاء.. فهي وجِلة مرتعشة متعثرة عند شعورهم بالخوف.. مشرقة مبتهجة ممتلئة ثقةً بالله سبحانه و تعالى عند إحساسهم بالرجاء. و هم بين هذه المشاعر و تلك يواصلون حياتهم أبطالاً للمراقبة و رموزًا للتبصّر و اليقظة.

و ينبغي التأكيد على أن هؤلاء المتيّمين ليسوا رجالاً مستسلمين متواكلين سلبيّين أبدًا. فبالإضافة إلى توكلهم الكامل على الله سبحانه و تعالى، و تسليمهم الخالص له، و تفويضهم التام إليه، فهم منتبهون إلى ما يجري حولهم من وقائع أشد ما يكون الانتباه، حساسون تجاه ما يحدث في الساحة من تحوّلات و تقلّبات أشد ما تكون الحساسية؛ بل و يتخذون إزاءها مواقف واضحة و حاسمة، و يتفاعلون معها تفاعلاً حكيمًا و بصيرًا. فهم لا يتعثرون بعواطفهم أبدًا، لا في شؤونهم الدنيوية و لا في شؤونهم الأخروية.. و يزِنون كل حركاتهم و سكناتهم بموازين الأوامر الإلهية.. و يراعون مستوى الفهم البشري في مقولاتهم و خطاباتهم و تفسيراتهم، و من ثَمَّ تأتي قراءتهم و رؤيتهم لحقيقة الكون منسجمة مع الفهم البشري. هؤلاء الحكماء يدركون موقع الإنسان من الكون حقّ الإدراك، و يعرفون مكانته حقّ المعرفة.. و كذلك يبتعدون عن كل فعل يؤدي إلى الاصطدام مع فطرة الأشياء و طبيعة الأحداث، و يسعون دائمًا إلى أن يكونوا متوافقين متآلفين مع السنن الكونية.

هذا، و لكي نسير بخطوات واثقة إلى المستقبل المشرق الذي نؤمّل أن يكون لنا، ننبه فيما يلي إلى قضايا في غاية الأهمية و الحيوية؛

  • ينبغي على الأمة جميعًا و بالأخص على النخب و المثقفين منها، أن يؤسّسوا "سَلامًا" بينهم و بين تاريخهم.
  • إن كل حركة تجديدية و عملية تغييرية تم وضعها من أجل إنشاء المستقبل، ينبغي أن يتم التخطيط لها بناءً على مقوماتنا التاريخية و جذورنا الروحية.
  • إن قضية حيوية كهذه القضية ينبغي ألا تشوَّه بالأغراض السياسية و لا أن تلوَّث بالمطامع الفردية أو المصالح الفئوية.
  • يجب أن يوضع في الحسبان أن المساعي و الجهود التي تصبّ في هذا الاتجاه قد تعترضها بعض المضاعفات الجانبية المفاجئة حتى و إن تم اتخاذ كل التدابير اللازمة. و من ثَمَّ ينبغي السير بحكمة و بصيرة؛ كما ينبغي عدم إتاحة الفرصة لعواطف طفولية طائشة قد تبدر من بعض الشباب العابث، أو لتصرفات غير مسؤولة قد تصدر عن بعض عشاق المغامرات؛ بل حتى لو أُهِينت كرامتُنا، فسوف نكبح جماح عواطفنا، و نُحكم السيطرة على أَزِمّة انفعالاتنا، و نصُرّ على أسناننا، و نحتمي بالصبر، إكرامًا لغايتنا السامية و آمالنا المنشودة.
  • قبل أن نهدم بنيانًا ما، ينبغي أن نكون قد حسمنا قرارنا حول ما سيُبنَى مكانه. فإذا كان ذلك واضحًا وضوحًا تامًّا، عندئذ يمكن الشروع في هدم البنيان القديم المتداعي. و إنّ مبدأنا في هذا الشأن هو "نَهدم لِنَبْني"، و من ثَمَّ فقبل أن نضرب أول معول على المبنى الذي نريد هدمه، ينبغي أن يكون "نموذج البنيان الجديد" جاهزًا حاضرًا أمام أعيننا.
  • إن جميع القرارات و كافة الأفعال المتعلقة بأي مشروع في هذا الإطار، ينبغي أن تُزوَّد بالعلم و الخبرة و المعرفة و التخطيط؛ و كل مسعى و كل مبادرة ينبغي أن تدعم بالدراسات العميقة و البحوث الدقيقة و الاستيعاب الشامل حتى لا نقع في دائرة مفرغة من الهدم و البناء.

لا شك أننا نقف اليوم في مفترق طرق و على "ملتقى قدَري" مرة أخرى. ففي ظل الموقف الحرج الذي نعيشه و الموقع الدقيق الذي نوجد فيه، إذا استطعنا أن نستثمر المرحلة الزمنية التي نمر منها بأفكار عظيمة و مشاريع عملاقة و رؤى بعيدة المدى و عزيمة كعزيمة الأنبياء، فإن فرصتنا في رجحان كفة ميزان "الملتقى القدَري" لصالحنا أسنح بكثير -بالمقارنة مع الأمم الأخرى في العالم- لكي يبزغ نجم سعدنا متألقًا في الآفاق.

إننا نعاني اليوم من مآس حقيقية، و هشاشة اجتماعية و اقتصادية، ناهيك عن الفوضى التي لا تسأم بؤرُ الفساد الداخليةُ و الخارجية من إثارتها و استفزازها. لكنني على يقين تام بأننا قادرون على تجاوزها. إذ إن سنة الله اقتضت ألا تستمر وتيرة السقوط و التراجع إلى الأبد.. و ألا تسير عجلة الأحداث و الوقائع في اتجاه واحد قط.. و ألا يمتد سلطان الليالي إلى أبد الآباد. فكم من مَرة دار الزمان دورته، فتألقت خرائب الديار بلآلئ العمران من جديد، و عادت يد الأحداث -التي تسير في خط دائري- توزع أزهار البسمات على البؤساء الذين أبكتهم فيما مضى، و انهزمت ظلمات الليل أمام ضياء النهار مدحورة مقهورة، و دوّت جنباتُ الكون مهللة بضحكات النور الساطعة.

قراءة 1603 مرات آخر تعديل على الأحد, 05 تموز/يوليو 2015 09:22

أضف تعليق


كود امني
تحديث