ليل العبودية حالك الظلمة، ثقيل الوطأة، مليء بأنين المعذبين، المثخنة قلوبهم بالجراح الدامية، هنا في مكة، كما في كل بقاع الأرض، قلوب سوداء، و نفوس ماكرة، و ضمائر لا أثر فيها لملامح الإنسانية التي تتراحم و تتعاطف و تتساوى في شرعها الحقوق البشرية، و في أزقتها أكواخ يئن ساكنوها تحت نير ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، عبيد و إماء،ضعفاء و فقراء، رجال و نساء، استرقّوا رغم انوفهم، فهنا كما في كل بقاع الارض، القوي يأكل الضعيف و القول المسموع قول أرباب المال و الجاه، و الحكم الساري هو حكم السيد على العبيد، لاضوابط و لا قوانين، لارحمة و لا رقيب و لا حسيب، هنا و على الأرض التي ارادها ربها موطنا لخليفته الإنسان، نسي الإنسان غاية خلقه، و تنكر لصفاته الطيبة و استبدلها برداء أسبغه على نفسه الأمّارة، رداء ظاهره كباطنه، بشع و قاس و أناني و جبّار، و أقام لنفسه منهجا لا منطق يحكمه، و لا رادع يردعه عن غيه، فرعنة و جهل، و استعلاء و شرك، انفاس بريئة لم تعانق الحياة بعد، تخمد بدم بارد، و اجساد رقيقة لم تعرف بعد ملمس الغطاء الدافيء، تدسّ في التراب وفق قانون جاهلي يعتبر الانثى عار لا يمحوه إلاّ الوأد، دون اعتبار لدمعة الأم الثكلى، و قلبها الوالدي يتمزق ألف قطعة، و هي ترى ما حملته كرها و وضعته كرها ينتزع منها و يدفن حيّا في التراب، ايها الجهل متى ستطرد شمس الرحمة جحافلك البليدة.
اصغي أيتها القلوب المعذبة، فقريبا ستتنزل الكلمات الخالدة، لتجعل كل هذا الضنك و العنت و الجبروت ماض كئيب مرفوض و محرّم، و ها هو أوان نبي الأمة و رسول الرحمة يؤذن بالقدوم، و ها هو{ محمد} صلى الله عليه و سلم الصادق الأمين، يتميز بما فطره عليه ربه سبحانه من الأمانة و الصدق، و الجود و العطف، يحبه و يجله كل من عامله و جالسه، و تختاره { خديجة بنت خويلد} سيدة نساء مكة ليتاجر بمالها، و ترى فيه الأمانة و البركة، و تحس بروعة خلقه، و جميل صنائعه، و طيب سيرته، فلا تلبث أن تختاره زوجا، و ما ندمت أبدا، بل ازدادت شرفا و كرامة.
و تتوق النفس الزكية إلى الإرتقاء، و تشتاق الروح المؤهلة لخطاب السماء للمزيد من النقاء، و تبدأ رحلة حراء التعبدية الجميلة، و تبدأ الرؤى الصادقة كفلق الصبح، و يحين أوان اندحار الجهل و تبدد ظلامه، و يشاء الله لهذه الأرض خيرا، فينظر إلى خلقه الضعاف بعين الرحمة الربانية الكريمة، فينزل الروح الامين على محمد صلى الله عليه و سلم و يتنزّل الوحي الكريم عليه في ليلة القدر، و التي هي خير من ألف شهر، برسالة الإسلام الخالدة، القائمة على توحيد الخالق المعبود، مبدوءة بكلمة هي الرقيّ و السموّ و الانطلاق الحر المحلق في آفاق العلم الرحيبة، النافية لخبث الجهل و ظلمة الخرافة، و الاستعباد لروح الإنسان و جسده، في أمر واضح للبشرية أن القي عنك رداء الجاهلية بكل ألوانه، و اشكاله، و قوانينه، و استمعي لقول ربك المنزل على الصادق الأمين {إقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق إقرأ و ربك الأكرم الذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم}.
أيها الإنسان المكرّم المتميز بالعقل و الحكمة، إقرأ وابحث و استمع لربك الذي خلق البشرية من أصل واحد، و لا رب لها سواه، و لا مدرك لما فيه خيرها سواه و لا متصرّف بأمرها إلّاه، أيتها العقول التي انغلقت على آثار الآباء الدارسين، و قوانينهم البائدة، فلم يعد لها صوت يسمع و لا حوار منطقي مبني على اساس، و القلوب التي طال عليها الأمد فقست و امعنت في التحجر و الطغيان، ها هو باب التغيير و التحضر و الارتقاء يفتح أمامك فلا ترتدي عنه رافضة للخير المتدفق منه، و هاهو الصادق الأمين يتلقى الكلمات الصادقة برعب و ارتعاد، إنها لأمانة ثقيلة، جعلته يهرع إلى خديجة الحكيمة الطيبة، الودود الأليفة{ زملوني دثروني}، و تتلقى الزوجة المحبة الفخورة بزوجها، ما ألقاه إليها من خبر السماء، و تدرك أنه خير عظيم، فمحمد الصادق الامين، المعطاء الكريم، يعين الكل و يواسي الكليم، و يسعى على كل ذي حاجة و يرد لهفة الملهوف، و يطعم الجائع و يحمي الضعيف، فليس للشيطان عليه من سبيل. [كلّا، والله لا يخزيك الله ابدا، إنّك لتصل الرّحم، و تحمل الكلّ، و تكسب المعدوم، و تقري الضيف، و تعين على نوائب الحق]، و إنها و الله لصفات ينبغي ان تكون اصيلة في كل من أراد الإصلاح و سعى إلى خير الخلق و مصالحهم، إنها أخلاق الأنبياء يرثها في امة محمد صلى الله عليه و سلم كل داعية خير، و ساع إليه، ليكون حقا وريث [محمد]صلى الله عليه و سلم، لقد أدبه ربه فأحسن تأديبه، و تعاهده بطيب الأخلاق و أحسنها و أعظمها، ليكون أهلا لحمل أمانة فيها النجاة للبشرية من مهالك الشرك، و أدران الجاهلية و ربقة الضلال.
يا ورقة بن نوفل ماذا لديك لتقول في هذا و أنت صاحب العلم و المعرفة بكتب الأولين، يا إبن العم ما تقول فيما رآه و سمعه{ محمد }في غار حراء، و يسأل الشيخ محمدا عمّا رآه و سمعه صلّى الله عليه و سلم، فيخبره بما رأى و سمع فيقول ورقة:{هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك}، و يتسائل الصادق الأمين الذي التقت على حبه و احترامه و الرضى بحكمه و الثقة به كل قلوب اهل مكة، {أو مخرجيّ هم ؟} قال نعم، لم يأت رجل قط بمثل ماجئت به إلّا عودي، و إن يدركني يومك انصرك نصرا مؤزّرا،} .
يا من سبّح الحصى في كفيك، و حجارة مكة قد سلّمت عليك، ألف ألف صلاة و سلام من اللّه عليك، لقد حمّلت أمانة ثقيلة لا ترجو من وراءها مال و لا منفعة شخصية، أمانة إخراج الخلق من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، من الظلمات إلى النور، لتقرّ في البشرية منهج الحرية و المساواة و التفاضل بالتقوى و العمل الصالح، هذه هي الرسالة تلقى إليك، و هي و إن كانت تحمل الخير كله للناس جميعا إلا أنها تحمل لأولئك الطغاة المتألّهين إيذانا بزوال ظلمهم و تحرير النفوس المستعبدة لديهم دون أدنى شعور بآدميتهم، و هم لذلك سيقدمون على كل ما يستطيعونه للإبقاء على مكاسبهم، و الحفاظ على هيبتهم القائمة على الغي و الطغيان و سيخرجوك من بيتك و أرضك و إنّك لعلى الحق المبين.
الرابط:http://www.gerasanews.com/index.php?page=article&id=125362